شهادة في حق الدبلوماسي الرّاحل لفضل ولد آبيه

كان المرحوم “ولد آبّيه”،كما كان يُنادى أيامه في بلجيكا، ذا تجربة طويلة في المجال الدبلوماسي، وكان أريحياً في التعامل، صافي النفس طيب السريرة. لقد التقيته أول مرة في سبتمبر 1994 حين كنت أحاول التسجيل في السلك الثالث في بلجيكا. وبعد أن وصلتها متأخرا عن الفترة المحددة لتسجيل غير المقيمين. لقد كانت يومها فترة التسجيل تنتهي بداية مايو من كل عام، فيما دخلتُ أنا البلاد في 4 إبريل 1994، وبتأشيرة تنتهي مدتها قبل بداية مايو. ليصبح تسجيلي بذلك شبه مستحيل بسبب ضيق الوقت وانتهاء المدة القانونية للتأشيرة.

سمعت عن الرجل وعن خدماته ومدى سرعة استجابته لمساعدة الموريتانيين، على اختلاف مشاربهم، إلا أنني لم أعر الأمر كثير أهمية نظرا لتضافر العوائق والمصاعب الآنفة الذكر. فشاءت الأقدار أن أمر على مكاتب السفارة في ابروكسل ضحى يوم مشمس جميل. وما إن دخلت وسلمت على سيدة الاستقبال حتى فُتح الباب من ورائي، فإذا برجل يتأبط محفظته يهم بالدخول. عرفت فيما بعد أنه الدبلوماسي لفضل ولد آبّيه رحمه الله. بادرني بالسلام وسألني عما إذا كانت لدي حاجة ما. ابتسمت في وجهه بكل أدب وشكرته، فما كان منه إلا أن أتبع ذلك السؤال بآخَر، عن ما جاء بي لبلجيكا ومتى وصلتها، ثم طلب مني الصعود معه إلى مكتبه.

عندها أخبرته بأنني قدمت لأجل الدّراسة وبالمصاعب التي تحول بيني وبينها. سكت الرجل وكأنه يأسف لحالي، ثم قال: لا تقنط سأحاول مساعدتك، عسى الله أن ييسر ذلك. لم أهتم لقوله كثيراً، بل ربما تهكّمت في نفسي من جدوائيته. أخذ الرجل الهاتف وأجرى اتصالا، كنت أستمع لكل ما دار فيه، حيث ردت سيدة سألها عن العميد (بويسان) فأخبرَتْه بأنه خرج وسيعود بعد قليل. ثم سألتْه من المتصل؟ فقال لها أبلغيه أن ولد آبيه كلمه. انتهت المكالمة وبدأ يلاطفني ويسألني عن بعض العموميات، وعن ما إذا كان ملفي جاهزا، وكأن الأمر قد حُسم. مما زاد التهكم والعجب في نفسي. وما هي إلا دقائق حتى رن الهاتف، فإذا بصوت نفس السيدة تستسمحه لتقوم بربطه بمكتب العميد. حيث دار الحديث التالي:
قال العميد: كيف الحال؟ رد ولد آبيه بأن كل شيء على ما يرام باستثناء كوني بجانبه وأرغب في التسجيل في السلك الثالث مع أن وقت التسجيل قد انتهى. فما كان من العميد إلا أن أخبره بالقبول المبدئي لذلك وسأله عن إمكانية إحضار الملف إلى مكتبه في أسرع وقت، وأن سكرتيرته ستكون لديها معلومات بخصوص الموضوع! دامت المكالمة عدة دقائق، تخللتها ملاطفات ومزاح يوحي بمدى حميمة العلاقة بين الإثنين. ظهر فيه المرحوم مظهر الدبلوماسي الناجح ذي العلاقات الحسنة الواسعة. والذي يسخّر علاقاته ومكانته لخدمة بلده ومواطنيه.

انتهت المكالمة، شكرت الرجل جزيل الشكر، فدلّني على كيفية الوصول إلى الجامعة، وعبر لي عن جاهزيته لاصطحابي إليها إن كانت هناك حاجة لذلك. طبعاً، انطلقت كالسهم إلى مكان السكن وأخذت الملف واتجهت إلى الجامعة. وجدت من دلّني على مكتب العميد فإذا بالسكرتيرة لديها توصية في موضوعي، فأخذتْ الملف وأكملت لي إجراءات التسجيل، لتسلمني بعد لحظات ورقة القبول موقعة من طرف العميد.

لقد تم الآن تسجيلي لله الحمد، وتحصّلت على بطاقة جامعية تمنحني وضعا قانونيًا، ولكن “المعاناة” لم تنته بعد. فللقصة بقية، ولي مع دبلوماسية المرحوم وقوة علاقاته الخادمة لبلده جولة لاحقة.

لم يكن طلب الإقامة بناء على التسجيل الجامعي ممكنا لكوني دخلت بلجيكا بتأشيرة سياحية، وكون “تأشيرة طالب” لا تمنح يومها للموريتانيين إلا من طرف القنصل الشرفي لبلجيكا في انواكشوط، نبيل نجّار. وهو أمر بعيد المنال. ولكنه إشكال تم التغلّب عليه بفضل الله وبتدخلٍ من سعادة السفير أحمد ولد سيد أحمد أطال الله عمره، فحصلت على تأشيرة طالب. لتبرز بعد ذلك صعوبة استخدام هذه التأشيرة للحصول على الإقامة لكون الدخول الوحيد الموجود على جاوز سفري هو ذلك المرتبط بتأشيرتي السياحية السابقة.

هنا كان علي أن أطلب العون في مظانّه وأن أتوجه إلى أخي الأكبر لفضل ولَو لأجل النّصح والاستشارة على الأقل. فأجابني بدون تردّد: عليك أن تمر علي غدا صباحا للذهاب لمكاتب البلدية. فقمت بذلك، فوجدنا المبنى يعجّ أيامها بطالبي اللجوء البرونديين والروانديين الفارين من ويلات الحرب الأهلية، هذا بالإضافة إلى العدد الكبير من المراجعين العاديين من الجنسيات الأخرى. كانت الصفوف طويلة جدا. تقدم ولد آبّيه بخطى الواثق من نفسه، ومكانته وحسن علاقاته، إلى داخل المكاتب الرئيسية.  سأل إحدى العاملات خلف الشبابيك عن العمدة (بالاسم)، وإن كان لا يحضرني الآن اسمه، فأجابته بأنه مشغول ولا يمكن التواصل معه الآن. وقبل أن تنهي كلامها إذا برجل أشيب يمر بجانبها، فناداه صاحبي، فرد عليه ضاحكا بصوت جهوري، لفت انتباه الحاضرين: “أي يوم جميل هذا الذي يأتي بولد آبّيه؟”، ليتبيّن لي أنه العمدة نسفه. تبادلا عناقا حارا، واصطحبنا إلى داخل مكتبه.

كان لقاء في غاية الودّية والحميمية. شرح ولد ابّيه للسيد العمدة موضوع الزيارة، فأخذ الأخير جواز السفر ليذهب إلى وجهة ما ثم يعود ليصطحبني إلى شبّاك نفس السيدة التي استقبلتنا بوجه عبوس قبل لحظات. وطلب مني انتظارها لإكمال الإجراءات. فلم تكلّف نفسها حتى مجرد النظر في التآشر أو الاطلاع على التفاصيل، فأدخلت البيانات المطلوبة ثم سلمتني وصلا يوضح التاريخ المرتقب لاستلام الإقامة عبر البريد. رجعت لصاحبيّ وأخبرتهما أن الإجراءات قد تمّت بالكامل. ثم شكرنا السيد العمدة، الذي أصرّ على توديعنا ومرافقتنا إلى باب المبنى.

هذا قليل من كثير من خدمات الرّجل وفعّاليته في القيام على شؤون بلده ومواطنيه، مما هو معروف لمن عاش في بلجيكا خلال تلك الحقبة الزمنية. يتساوى عنده في ذلك جميع أبناء موريتانيا وبناتها، بغض النظر عن جهاتهم وأعراقهم وفئاتهم. فقد كان أبا وأخًا وصديقا للجميع دون استثناء.

وقد أخبرني أحد من سبقوني للدراسة  في بلجيكا أنه اصطحب ذات يوم أحد الطلبة الراغبين في التسجيل في جامعة لو فين لانيف. حيث وصلا بدون سابق موعد لباب رئيس الجامعة، فاستقبلهم بجفاء، فعرّفه ولد آبّيه على نفسه وعلى مهمّة زياته. فما كان من رئيس الجامعة إلا أن اعتذر عن تحقيق تلك المهمة متحججا بكون موريتانيا لم تكن مستعمرة بلجيكية وأن الأولوية في تسجيل الأجانب لطلاب مستعمرات بلجيكا. فتناول ولد آبيّه الحديث، وخاطبه بالقول: سيادة الرئيس، نحن لم نطلب من فرنسا أن تستعمرنا، وبوصفي القائم بالأعمال لدى سفارة بلدي أوجه رسالة عبركم لجلالة الملك بودوان بإجراء اللازم حالاً لاستعمار موريتانيا من جديد وسنكون جد سعداء بذلك. فضحك الرجل طويلاً، وكان ذلك بداية لبناء علاقة صداقة وتحقيقٍ للمهمة المنشودة. فتم تسجيل الطالب  والتكفل له بتخفيض رسوم الجامعة كما أراد. لقد كان بحق رحمه الله رائد دبلوماسية وبناء علاقات قويّة فعّالة.

وقد أخبرني مرّة سعادة السفير بلال ول ورزك وهو في طريقه عائدا من واشنطن في الفترة التي كان سفيرا فيها هناك، وأيام كانت ملفات العبودية والتمييز العرقي مادّة دسمة للمزايدة والتلفيق من قبل الكثيرين، أنه وجه طلبا رسميا لوزير الخارجية انذاك لكي يضمّ ولد آبّيه إلى فريق عمله في واشنطن. نظرا لثراء تجربته الدبلوماسية ولإتقانه للغات عديدة، منها الانكليزية والفرنسية والروسية والصينية، إلا أن الوزارة لم تستجب لذلك الطلب.

غادر الأفضل بلجيكا عائدا إلى البلد أيام كان محمد سالم ولد لكحل، رحمهما الله، وزيرا للخارجية، في إطار التناوب الدبلوماسي. لتُطوى معه صفحة مضيئة من النّجاح الدّبلوماسي والسّعي في حوائج النّاس ومحبّة الخير للجميع.
رحم الله لفظل ولد آبّيه وأدخله فسيح جناته، وجازاه عنّا وعن بلده أحسن الجزاء، وتقبله في الصالحين.

الخديم لايحيدو

ثلاثاء, 26/05/2020 - 18:19