مراعاة الإنسان لمصلحته؛ هل تعد انحرافاً عن الأخلاق ..؟! ( مقاربة استنتاجية ) - زين العابدين محمد العباس، أستاذ وباحث

مراعاة الإنسان لمصلحته؛ هل تعد انحرافاً عن الأخلاق ..؟! ( مقاربة استنتاجية ) - زين العابدين محمد العباس، أستاذ وباحث 

تصدر عن الإنسان سلوكات وأعمال مختلفة بعضها يشمل الآليات البيولوجية كآليات الجهاز العصبي والتنفسي، وبعضها الآخر يشمل التصرفات المبنية على الاختيار والحرية والتضحية والأمانة والصدق والسرقة والكذب ... وغيرها، وتندرج هذه التصرفات الأخيرة ضمن دائرة الأخلاق لأننا نستطيع أن نستحسن بعضها ونستنكر بعضها الآخر وتعرف الأخلاق على أنها مجموعة من المبادئ النظرية والقواعد العملية التي تهدف إلى تقويم سلوك الإنسان أو هي ما ينبغي أن يكون عليه سلوك الإنسان.

وقد أثارت مشكلة مقاييس الأخلاق جدلاً فلسفياً كبيراً وتضارباً في الآراء بين المفكرين والفلاسفة فهناك من رأى أن العقل هو معيار القيم الأخلاقية وهناك فريق آخر من الفلاسفة ناقض هذا الطرح ورأى أن المنفعة هي معيار القيم الأخلاقية ؟!

لاشك أن القيمة الخلقية مصدرها هو العقل فالعقل هو أهم ما يميز الإنسان ويرفعه فوق عالم الحيوان لذلك يجب اتخاذه كمرجع لكل القيم الخلقية فالإنسان كائن عاقل بالدرجة الأولى وعقله ليس ملكة للفهم فقط بل هو مصدر للفعل الأخلاقي و هو المسؤول عن تمييز الأفعال خيرها و شرها و يتبنى هذا الموقف كل من: «أفلاطون وكانط والمعتزلة»، وحججهم في ذلك مايلي:

- أن القيمة الخلقية مصدرها العقل حيث يرى سقراط أن الأخلاق أساسها المعرفة فمن يعرف الخير يفعله ومن يعرف الشر يمتنع عنه لذلك يقول "إن الفضيلة علم والرذيلة جهل" ويقول كذلك "الإنسان لا يصبح شريراً عن معرفة وقصد"، أما أفلاطون فيعتقد بوجود علم أو حكمة سامية غرضها الأقصى هو الخير الأسمى المطلق ومعرفة هذا العلم وفي كل ما نرغب فيه يكون عن طريق العقل حيث يقول "إن الخير فوق الوجود شرفاً وقوة" فالخير في نظره يوجد في عالم المثل الذي لا يدركه إلا العقل فهو حقيقة مثالية سامية على الوجود الواقعي فعالم الحس الذي نعيشه وندركه بحواسنا ما هو إلا ظل والعالم الحقيقي هو عالم المثل الذي يحوي الحقائق المطلقة بما فيها القيم الأخلاقية وعلى هذا يرى أن العدل المطلق والجمال المطلق والخير الأسمى معاير توجد في عالم المثل ولا يمكن أن يصل الإنسان إليها بحواسه لأن النسبي لا يدرك المطلق ومنه فالقيم الأخلاقية في نظر أفلاطون ذات كيان مستقل وثابت وهو ما يجعلها موضوعية ومطلقة، ويقسم أفلاطون أفعال الناس تبعا لتقسيم المجتمع، فإذا كان المجتمع ينقسم إلى ثلاث طبقات هي طبقة الحكماء وطبقة الجنود وطبقة العبيد، فإن الأفعال – تبعا لذلك – تنقسم إلى ثلاثة قوى تحكمها ثلاث فضائل: القوة العاقلة (تقابل طبقة الحكماء) وفضيلتها الحكمة والقوة الغضبية (طبقة الجنود) وفضيلتها الشجاعة والقوة الشهوانية (العبيد) وفضيلتها العفة، والحكمة هي رأس الفضائل لأنها تحد من طغيان القوتين الغضبية والشهوانية، وإذا انقادت القوة الشهوانية والغضبية للعقل تحقق التناسق والتناسب في النفس وهي الحالة التي يسميها أفلاطون بالعدالة، ويرى كانط أن الأخلاق هي امتثال للواجب الأخلاقي وهو إلزام داخلي "الضمير الخلقي" تفرضه الإرادة الخيّرة التي تنبعث من أعماقنا ولا تعمل لمصلحة أو منفعة بل لذاتها "الواجب من أجل الواجب" ...

- فالفعل الأخلاقي عند كانط يجب أن يكون صادراً عن الإرادة الخيرة "النية الطيبة" "الأفعال بالنوايا لا بالنتائج" (مثال اللص) يقول كانط "الإرادة الخيّرة لا تكون خيّرة بما تحدثه من أثر أو تحرزه من نجاح ولا بصلاحيتها للوصول إلى هذا الهدف أو ذاك بل أنها تكون كذلك عن طريق فعل الإرادة وحده أعني أنها خيّرة في ذاتها"، ويميز كانط بين نوعين من الأوامر الصادرة عن العقل أوامر شرطية ترتبط بغايات خارجية تعتبر شرطا لها هي أوامر لا أخلاقية لأن الإرادة فيها تكون مقيدة بتلك الغايات الخارجية مثل قولنا "كن أميناً لتنال رضا الناس" وأوامر قطعية تجعل من الفعل ضرورياً لذاته لا لهدف آخر هي أوامر أخلاقية مطلقة مثل قولنا "كن أميناً" حيث يقول كانط واصفاً الفعل الأخلاقي "إن الفعل الأخلاقي الذي يتم بدافع الواجب إنما يستمد قيمته الخلقية لا من الهدف الذي يلزم تحقيقه بل من القاعدة التي تقرر تبعا لها" كما يضع كانط لهذا الفعل الأخلاقي ثلاث قواعد أساسية هي: قاعدة التعميم "إفعل كما لو كان على مسلمة فعلك أن ترتفع إلى قانون طبيعي عام" قاعدة الغائية "إعمل على نحو تعتبر فيه الإنسانية في نفسك وفي الآخرين غاية لا وسيلة" وكذا قاعدة الحرية" إعمل بحيث تكون إرادتك باعتبارك كائنا عاقلاً هي بمثابة تشريع عام".

هذا ونجد في الفكر الإسلامي فرقة المعتزلة التي ترى أن القيمة الخلقية مرتبطة بالعقل أي أن العقل هو المثبت لخيرية الأفعال وشريتها لكونه يستطيع أن يدرك ويميز بين ما هو حسن وما هو قبيح أما الدين فجاء مخبراً عما في العقل فقط يقول أحد المعتزلة "إن الإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل حسب الدواعي والصوارف، فإذا أراد الحركة تحرك وإذا أراد السكون سكن" ويقول ابن مسكويه "وإذا قد تبين أن سعادة كل موجود إنما هي في صدور أفعاله الإنسانية عنه بحسب تمييزه ورويته" ...

ومهما يكن من شيء فلا يمكن إنكار دور العقل في التمييز بين الأفعال في خيرها وشرها إلا أن هذه النظرة العقلية للأخلاق غاية في التجريد والتسامي وصعبة التحقق في الواقع لذلك يقول بياجي "يدا كانط نقيتان ولكنه لا يملك يدين" ويقول شوبنهاور "إن الواجب الكانطي قانون سلبي يصلح لعالم الملائكة لا لعالم البشر" كما أنها تتصور الطبيعة البشرية عقلا فقط وتستبعد من تكوينها الحس ونوازعه وهذا تصور مبالغ فيه ففي كثير من الأحيان يكون الفعل النابع من الوجدان أنبل من الذي ينبعث من العقل ..!!

إن المنفعة الإنسانية هي أساس ومقياس القيمة الخلقية، لأن حقيقة السلوك الأخلاقي متوقفة على ما يحققه من آثار ونتائج نافعة و يمثل هذا الموقف كل من: أنصار اللذة والمنفعة «أرستيب، أبيقور، ج.س.مل، جيريمي بنتام» وحججهم في ذلك كالآتي:

- أن القيم الخلقية مرتبطة بالمنفعة، فالسعادة هي غاية الحياة بل هي غاية الغايات التي يطمح إليها الإنسان ولا تتحقق هذه السعادة إلا بتحصيل اللذات وتجنب الآلام من هنا كانت اللذة هي الخير والألم هو الشر لذلك يقول أبيقور "إن السعادة أو اللذة هي غاية الإنسان ولا خير في الحياة إلا اللذة ولا شر إلا الألم" فالفعل الأخلاقي يجب أن يكون موافقا للطبيعة البشرية التي تطلب اللذة وتنفر من الألم حيث يقول أرستيب "اللذة صوت الطبيعة" ويرى أرستيب أن اللذة هي مقياس القيمة الخلقية فالخير كل ماهو لذيذ والشر كل ماهو مؤلم حيث يقول "اللذة هي الخير الأعظم وهي مقياس كل القيم الأخلاقية "و يؤكد على ضرورة تحقيق اللذات الجسمية والمادية مثل "الأكل، الشرب، النوم، كثرة المال، الترفيه .. إلخ" أما أبيقور فيؤكد على أن اللذات العقلية والروحية أهم من اللذات الجسمية وأن خير اللذات التي يطلبها الإنسان هي "طمأنينة العقل وراحة النفس و الصداقة ... إلخ".

- كما يرى أنصار المنفعة العامة "بنتام - ج.س.مل" أن الفعل يكون خيراً إذا كانت نتيجته تحمل منفعة "الأفعال بالنتائج لا بالنوايا" حيث يؤكد بنتام على أن كل ما يحقق أكبر قدر من المنفعة والسعادة لأكبر عدد من الناس هو مقياس الأخلاق وأساسها "المنفعة العامة" فتحقيق المنفعة العامة يقلل الألم الفردي فالخير هو ما يكون نافعاً لنا وما هو نافع لنا يجب أن يكون نافعاً لغيرنا في نفس الوقت يقول في هذا ج.س.مل "إن قاعدة السلوك الأخلاقي هي بالضرورة أن نفعل من أجل الآخرين، ما نحب أن يفعلوه من أجلنا" ولتحقيق هذه المنفعة العامة وضع "بنتام" مقاييس لحساب اللذات هي: الشدة، المدة، النقاء، القرب، والامتداد، يقول بنتام "المنفعة قيمة كل القيم وعلى الإنسان أن يحقق أكبر قدر من المنافع"، ويقول ج.س.مل "إن أكبر منفعة هي تحقيق سعادة الجميع فكلما كان الخير مشتركاً كلما كان قاعدة صحيحة لبناء الأخلاق" ..!

وعلى الرغم مما قدمه هذا الطرح إلا أن ربط الأخلاق بالمنفعة فيه مساس بقداستها فنظرية اللذة ساوت بين الإنسان والحيوان وهذا إنقاص من قيمة الإنسان لأن الإنسان مميز على الحيوان بالعقل فتأسيس الأخلاق على اللذة تصور أناني يؤسس لأخلاق ضيقة تطغى عليها المصلحة الشخصية كما أنه ليس كل لذة خير وليس كل ألم شر بالضرورة لذلك يقول شوبنهاور "لا تقوم الحياة الأخلاقية إلا بمحاربة الطبيعة" !!

وكتجاوز لهذا الجدل يمكننا القول إن الدين هو المعيار الأسمى الذي يمكن الوثوق به واتخاذه مصدراً وأساساً للقيم الخلقية باعتبار أن مصدره رباني مقدس، فالأخلاق جزء جوهري من الدين فنحن نتعلم القيمة الخلقية ونمارسها من خلال الدين، ففي الكتب السماوية والقرآن العظيم بصفة خاصة تعاليم أخلاقية سامية وكذلك في سنة الرسول المصطفى - صلى الله عليه وسلم - قيم أخلاقية عالية وقد صوره القرآن نموذجاً أخلاقياً عظيماً قال الله تعالى: {{وإنك لعلى خلق عظيم}} فالدين في جوهره أوامر ونواهٍ أخلاقية قال تعالى: {{ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير و يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون}}، فالدين يشكل بعداً أخلاقياً نستند إليه في تقويم أفعالنا الخلقية وفق قيم العمل بالخير والابتعاد عن الشر فقد بين الرسول - صلى الله عليه وسلم - أن الأخلاق من أهداف الرسالة التي بعث بها [رسالة الإسلام]؛ قال - صلى الله عليه و سلم - : {{إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}}

وفي ختام هذه القراءة التحليلية نستنتج أن الأخلاق قيم ومبادئ ومعاملات وسلوكات لها معايير وأسس متعددة إلا أنها تبقى واحدة في طبيعتها ومن حيث الغاية والهدف الذي تصبو إليه وهو تهذيب سلوك الإنسان وتقويمه والإرتقاء به ومنه لا ينبغي الأخذ بمرجعية واحدة فالقيمة الخلقية الحقة هي التي تراعي ثنائية الإنسان "العقل والطبيعة البشرية" وكذا توافق تعاليم الدين وقيم المجتمع لذلك يقول شوبنهاور "من السهل أن نبشر بالأخلاق لكن من الصعب أن نضع أساساً لها"، ويبقى الدين الأساس المثالي والأسمى للقيم الخلقية لكونه ينبع من مصدر إلهي منزه !!!

أحد, 28/06/2020 - 21:04