التأمين عندنا وانعدام الأمان.....

jemal-a

مما لا شك فيه أن الدافع في جميع حالات التأمين، هو إلتماس الأمن، والأمن مطلب فطري، ولا جدال في أن كل إنسان مسؤول يسعى إليه قدر طاقته، ويحرص على الاستزادة منه ومد ظله على من هو مسؤول عنهم، ويصدق هذا القول على رب الأسرة وولي الأمر.. وقد ذكره القرآن الكريم في أكثر من آية كقوله تعالى: {فليعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف..}.

فهنا ذكر الجوع رمزا لحاجات البدن وهي أشدها قسوة وذكر الخوف وهو مجمع حاجات النفس ولا يردها إلا الأمن.

والأمن من الإيمان.. والإسلام دين الكمال المطلق، لم يأت خلوا من القواعد والأوضاع التي تحقق الأمن على كل ما يمكن تحصينه من الحقوق والمتاع، بل إن التكافل الذي فرضه الإسلام فرضا على كل مسلم قادر لصالح الجماعة، كما فرضه على من يحمل فيهم الأمانة أو الولاية العامة.

إن عقد الأمن الإسلامي غطى أخطار الموت والعجز والشيخوخة واليتم، وشمل المجتمع الإنساني الذي يستظل برايته بلطائف رحمته، وجعل من هذا المجتمع إخوانا يتقاسمون كل خير ويتعاونون على البر، حتى يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "إن الأشعريين كانوا إذا أرملوا في غزو أو قل من أيديهم الطعام، جمعوا ما عندهم في ثوب واحد ثم اقتسموا فيما بينهم فهم مني وأنا منهم" وجعل مسؤلية الحاكم عن الرعية مسؤولية خطيرة يرتعد منها العادل عمر حتى ليقول: "لو عثرت بغلة في العراق لسئلت عنها لم لم أسو لها الطريق".

فأين هذا من التأمين عندنا..؟!!

يشهد قطاع التأمينات عندنا في الجهورية الإسلامية الموريتانية الكثير من الاختلالات والمشاكل الهيكلية منذ قيام الدولة الموريتانية، حيث أطبق عليه الفساد والإهمال حتى صار آلاما وأحزانا بدل أن يكون أمنا وأمانا.

وأصبحت شركات التأمين عبارة عن "دكاكين" الغاية منها فقط مص دماء الأبرياء من العجزة والمساكين، فبدلا من إغاثة الملهوف والمضطر الذي وقع ضحية للحوادث المرعبة، فإذا بها تدخل معه إجراءات قضائية طويلة لتفويت الفرصة عليه وزيادة آلامه آلاما أشد وأفظع، وفي أغلب الأحيان يموت بدون أن يجني أوقية واحدة من حقوقه الشرعية.

وفي حالات أخرى، فإن بعض شركات التأمين هذه تتوارى عن الأنظار ويتوارى معها الكثير من حقوق المنكوبين المكلومين الذين يموتون على أسرة المستشفيات بدون أدنى رحمة من أي أحد.

ومن البديهي أن الغاية من التأمين هو إغاثة المتضرر المسكين لحظة وقوع الضرر بلا تأجيل ولا تسويف، وهذا هو الهدف الكبير من التأمين وعلى ذلك نصت المادة 3 من القانون رقم: 40/93 الصادر بتاريخ: 20 يوليو 1993 المتضمن قانون التأمينات والتي تنص على أن: "عقد التأمين هو الاتفاقية المتعلقة بعملية يحصل بموجبها طرف هو المؤمَن مقابل تعويض أو بدل على وعد بأداء خدمة من قبل طرف آخر هو المؤمِن في حالة حدوث الخطر..".

ويتضح هنا مدى إلزامية هذا الوعد في ذمة الواعد الذي هو شركة التأمين، وأنه لا يوجد ما يعرقل الوفاء بأداء هذا التعويض المستحق ساعة حدوث الخطر..، وهو ما يخالف تماما الممارسات العملية لشركات التأمين عندنا التي تخالف القانون والأخلاق، حيث أنها تزيد من ألم المتضررين وتحطمهم تحطيما في الوقت الذي كانوا يأملون أن يجدوا فيها طوق نجاة وملاذا آمنا من كل الويلات التي ألمت بهم.

هذا وتنص أيضا المادة 10 من قانون التأمين مؤكدة هذا الالتزام بصفة صريحة لا لبس فيها إذ تنص على أنه: "يجب على المؤمِن أن يقوم إبان حدوث الخطر أو حلول نفاذ العقد بإنجاز الخدمة في العقد في الأجل المتفق عليه.." وكذلك أيضا المادة 24 التي تؤكد حتمية إلزامية تسديد تعويض التأمين على المؤمِن في الحال ولكنها رخصت له إمكانية مخاصمة الغير الذي سبب الضرر لكن ليس على حساب المتضرر المسكين.

والمفارقة الغريبة أن شركات التأمين عندنا تصب جام غضبها على المتضرر المسكين بدل إغاثته والرحمة به، تاركين الغير المتسبب في الضرر لحال سبيله وبالتالي يكون الحامي هو الحرامي.

وأيضا جاءت المادة 30 من قانون التأمين الموريتاني بحماية مطلقة للمتضرر لأنه هو العنصر الضعيف ناصة على إجراءات تحوطية رادعة في حالة الإخلال بحقوق المؤمَن حيث نصت على أنه: "يجب على المؤمِن أن يقدم للمؤمَن عرض تعويض مفصل حسب الأضرار في ظرف ثلاثة أشهر اعتبارا من استلام إعلان الحادث.

ويرفع التعويض بنسبة 5% إذا تجاوز المؤمِن هذا الأجل".

إن أزمة التأمين عندنا تتلخص في قصور قانون التأمين وعدم تطبيقه بصفة فعلية على شركات التأمين، والطامة الكبرى أن الجميع يجهلونه أو يتجاهلونه في معظم الأحيان، وعلى ذلك فإن الحلول الناجعة لحل أزمة التأمين عندنا تتمثل في:

  • إنشاء صندوق للتكفل وإغاثة المتضررين ضحايا الحوادث يتولى هذا الصندوق العلاجات الأولية فورا ساعة وقوع الحادث، وتتكون أرصدة هذا الصندوق من اقتطاعات مالية إجبارية من شركات التأمين، أو مخصصات مالية من ميزانية الدولة لأن الدولة هي المسؤول الأول والأخير عن حياة مواطنيها ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن تترك حياتهم عرضة لجشع الجشعين.

وفي حالة تم التسديد لهذا الصندوق من ميزانية الدولة يمكن للدولة أن ترجع على شركات التأمين المعنية لاسترداد ما دفعته جراء جبرها لضرر مؤمنيها.

  • تعديل قانون التأمين بتفعيل تطبيق قيمة التعويض أو الدية في الشريعة الإسلامية، وهو المعمول به في جميع دول العالم، فالدية أو التعويض عندنا في قانون التأمينات هي عبارة عن تعويض للدجاج أو الطيور في البلدان المتطورة التي تعطي قيمة حقيقية للإنسان.
  • مراجعة تامة لقانون التأمين لكي يواكب المتطلبات الآنية والعصرية للمجتمع، ويحافظ بصورة فعلية على مصالح الأطراف المتضررة لكي يكون بحق قانونا للتأمين.

كما يجب أن تشفع هذه المراجعة بتكوين مستمر لجميع الفاعلين في الميدان في مجالي قانون التأمين وحماية حقوق الإنسان.

 

ذ/ جمال ولد عباد

محام لدى المحاكم الموريتانية

 

أحد, 02/10/2016 - 23:41