يعد القاضي حجر الزاوية والمحرك الأساسي للعمل القضائي برمته وذلك بفعل ما يقع على عاتقه من مسؤولية وأمانة ، تفرض عليه بذل جهد مضاعف للبت فيما هو منشور أمامه من قضايا تمتازغالبيتها بالدقة والغموض بفعل ما شهدته المعاملات من اتساع وتشابك والجرائم من تطور بسبب ما استجد من وسائل في العصرالحديث ، بموجبها أصبح من اللازم على القاضي التعامل مع تلك القضايا بقدر كبير من الاحتراف والفنية مما يتطلب منه دراسة جميع المسائل المتعلقة بكل قضية من تلك القضايا على حدة والوقوف على موقف مختلف التشريعات المعاصرة منها وما توصل إليه الفقه والاجتهاد القضائي بشأنها الشيء الذي لم يعد من خلاله بمقدور تشكيلة أو قاض واحد الحكم في جميع القضايا المعروضة عليه انطلاقا من خلفية قضائية وقانونية قوية مستمدة من معرفة دقيقة بمجال عمله واختصاصه وفي فترة زمنية معقولة ، وذلك لكون حجم مسؤوليته لا يتوقف عند حد الوقوف على آراء الفقهاء واجتهادات المحاكم فيما هو منشور أمامه، وإنما يتجاوزها إلى ما هو موكل اليه من مهام يتعذر حصرها نظرا لارتباطها بتطبيق القانون على ما يعرض عليه من منازعات وما يتطلبه ذلك من مواكبة لتلك القضايا من لحظة عرضها عليه مرورا بما يتعين أن يقوم به من إجراءات لدراستها والحكم فيها وانتهاء بتنفيذ ما قد يصدر بشأنها من أحكام وقرارات وهي كلها أمور تحتاج وقتا حتى يكون الحكم الصادر فيها مستنداعلى أساس متين ودليل قوي.
وأمام هذه الوضعية يقف القاضي موقفا قد لا يحسد عليه فهو بين مطرقة البحث عن الحقيقة وسندان المتقاضين الطامحين إلى البت في قضاياهم على وجه السرعة، ناسين أو متناسين أن غالبية نسب التأخر المسجلة في البت في القضايا تقع مسؤوليتها على عواتقهم بسبب عدم قيامهم بما كلفهم القاضي القيام به من إجراءات، أو باتخاذهم بعض الإجراءات التي من شأنها أن تطيل أمد البت في النزاع كالطعن في بعض الأوامر والقرارات والإجراءات المتخذة من طرف المحكمة دون مبرر ، ثم إن خلفية المشرع الموريتاني كغيره وفلسفته فيما منحه من حقوق لجميع الأطراف في إطار إدارة وسير الدعوى أيا كان نوعها عمومية – مدنية –تجارية- إدارية...... يعكس بجلاء إرادته في تكريس مبادئ الشفافية والموضوعية والتحري عن الحقيقية في التعاطي مع القضايا والمنازعات ، وذلك من خلال ما أقره من درجات للتقاضي تسمح لأي من الأطراف الطعن أمامها فيما قد يصدر عن القاضي من أعمال يرى أنها لم تكن في مصلحته أو لم تأخذ في عين الاعتبار ما قدمه من أدلة على صحة دعواه ، وعلى هذا الأساس فإن تلك الدرجات وإن كانت تطيل أمد النزاع إلا أنها تسمح بالتدقيق في القضايا وتقييم وترجيح أدلتها ومراقبة وتصحيح ما قد يتخلل عمل المحاكم من أخطاء بالشكل الذي يسمح بأن يتم البت في النزاعات على وجه عادل وشفاف ومع ذلك فإن ما تم وضعه من معايير وإجراءات لضمان عدالة وشفافية العمل القضائي يظل عاجزا عن تغيير الصورة النمطية والموقف الثابت منذ آلاف السنين دون تغيير أو تبديل وهو عدم رضى نصف الناس على ما يقوم به القضاة والمحاكم من عمل وما ذلك إلا لكون هذه الأخيرة لم تحكم لصالحهم فيما تم نشره من قضايا أمامها فالناس في الدعوى إما محكوم له أو محكوم عليه
والدول في العصر الحديث وإن اتفقت على طرق وإجراءات العمل القضائي إلا أن شعوبها قد اختلفت في الحكم على عمل القاضي وهو ما يمكن إرجاعه إلى تفاوت المستوى الثقافي ودرجة الوعي من مجتمع لآخر وإلى طبيعة التركبة الاجتماعية لكل مجتمع من تلك المجتمعات مما ينعكس إيجابا أو سلبا على موقف كل شعب من تلك الشعوب اتجاه ما يصدره القضاة من أحكام وقرارات وما يتخذونه من إجراءات ، وإن كان المشرع الموريتاني قد عالج مسألة التشكك الشرعي من خلال ما أقره من حق لأي طرف من أطراف الدعوى في المطالبة برد القاضي متى تبين له توافر شرط من شروط الرد المنصوص عليها في القانون وما إقرار ذلك من طرف المشرع إلا لقطع الطريق أمام أية شبهة قد تحوم حول شخص القاضي مصدر الحكم أو القرار أو حول انحيازه لأي طرف من الأطراف على حساب الآخر.
والقاضى يكاد يكون الجهة الوحيدة في الدولة، التي لا يمكن أن يتقدم إليها أي شخص طبيعي كان أو معنوي بشكاية أو طلب أو دعوى .... إلا وتم الرد عليه بشكل مكتوب يتضمن الأسباب التي دفعته إلى رفض الطلب أو قبوله وإلى تحريك الشكاية أو حفظها وإلى رفض دعوى طرف أو الحكم لصالحه أو لصالح خصمه.......
وأمام تلك الوضعية وفي ظل ما يواجهه القاضي في عمله من تحديات وضغط اقتصادي واجتماعي ومن تدن لظروف ووسائل العمل ومن استهداف ممنهج من طرف الجميع.... فقد ظل الملاذ الأول والأخير لكل الطامحين للعدل والراغبين في رفع الظلم الممارس عليهم .
وبفعل التزايد الملاحظ في عدد المحاكم وحجم ونوع القضايا المعروضة عليها فقد أصبح من اللازم توفير الظروف الملائمة لقيام القاضي بمهامه على أحسن وجه وبالشكل الذي يلبي آمال المتقاضين وطموحات المشرع من وراء إنشاء تلك المحاكم تلك الأهداف التي لا يمكن تصور تحقيقها إلا من خلال العمل على إيجاد قضاة يتمتعون بقدرات فائقة في مجال ما تم اسناده إليهم من اختصاصات في إطار عملهم ، وتلك القدرات لا يمكن للقاضي أن يستمدها إلا من خلال تضافر مجموعة من العوامل من أهمها :
1) توفيرالعدد الكافي من القضاة كما ونوعا من خلال الإعلان عن عملية اكتتاب تأخذ في عين الاعتبار حاجيات القطاع المعبر عنها من طرف الجهات المعنية مع الأخذ في الحسبان ما ستتم إحالته من قضاة إلى التقاعد على المديين القريب والمتوسط حتى يتوفر الجو المناسب للبت في جميع القضايا المعروضة على المحاكم بمختلف أنواعها خلال فترة زمنية وجيزة ووفقا لقواعد العدل المنصوص عليها في القانون .
2) خلق الظروف المادية والمعنوية للقضاة حتى يتمكنوا من القيام بالمهام الموكلة إليهم على أحسن وجه ودون ضغط أو تأثير ، والعمل على تغيير الصورة النمطية والموقف المسبق من كل ما يصدر عن القاضي من أعمال مع تفهم حقيقتها ونوعها وطبيعتها............
3) مراجعة بعض ما نص عليه النظام الأساسي للقضاء من احكام كتلك المتعلقة بالمعادلة التي أقرتها المادة 27 وذلك بالشكل الذي يضمن أن يكون الإنتقال من رتبة الي أخري بشكل تلقائي
4) توفير الجو الملائم من مكتبات، ندوات..... حتى يتمكن القاضي من متابعة ما تم نشره من دراسات قانونية وفقهية واجتهادات قضائية في مجال تخصصه.
5) وضع برامج دقيقة ومفصلة لتكوين القضاة بصورة مستمرة تراعي مجال تخصص كل واحد منهم وتأخذ في عين الاعتبار أهمية الاطلاع على تجارب المنظومات القضائية الأخرى، وفي هذا الإطار دائما ننصح بإنشاء معهد خاص بالقضاء توكل إليه مهمة اعداد القضاة وكتاب الضبط والكتاب وتكوينهم........
6) العمل على اشتراك القضاة في إعداد ومراجعة وتحيين النصوص القانونية حتى يتم التغلب على ما يشوب بعض أحكام تلك النصوص من تعارض وعدم انسجام في بعض الأحيان مما يشكل عائقا كبيرا في وجه انسيابية العمل القضائي برمته ، وبما أن القاضي يتولى مهمة تطبيق القانون من خلال ما يقوم به من فصل في المنازعات المنشورة أمامه فإنه يكون الأدرى بمعرفة ما يتخلل نص القانون من اشكالات والأجدر من غير بالمساهمة في إعداد النصوص المكلف بتطبيقها من منطلق أن الممارسة والتطبيق تعد المجال الوحيد الذي يسمح باكتشاف ما يتضمنه النص القانوني من ثغرات وما يكتنفه من اشكالات واختلالات.
7) العمل على عدم تحويل قاض من مجال تخصص لآخر إلا بناء على مبررات موضوعية تأخذ في عين الاعتبار المحافظة على انسيابية عمل المحاكم وتميز أدائها وحسن سيرها ، إضافة إلى ما قام القاضي بمراكمته من خبرة وتجربة في مجال عمله في إحدى المحاكم.
8) انطلاقا مما تلعبه الخبرة والتجربة من دور أساسي في العمل القضائي فقد أصبح من الضروري التفكير في الطريقة التي يمكن من خلالها التمديد للقاضي بعد تقاعده ، وفي هذا الإطار فإننا نقترح أن يتم ذلك بواسطة مقترح من وزير العدل مستند على مجموعة من الضوابط والشروط التي من شأنها أن تبرر الاحتفاظ بالقاضي كالاستقامة والنزاهة والقدرة البدنية والكفاءة المهنية.... على أن يتم عرض ذلك الاقتراح على المجلس الأعلى للقضاء من أجل إقراره وأن يكون التمديد لمدة سنتين أو ثلاث قابلة للتجديد مرة واحدة.
والله من وراء القصد
القاضي/عبدالله اندكجلي