لا أستسيغ هذا الظلم الممنهج الذي يتجرعه كتاب الضبط منذ عشرات السنين، أعرف أن القضاء الموريتاني انطلق من قاض تحت الشجرة او تحت الخيمة ويصدر حكمه الملزم للجميع ، ويحتفظ لنفسه بأسبابه وحيثياته ، لأنه في كثير من الأحيان لا يتكلف عناء كتابته وينفذه المتقاضون على الفور ، وفي مرحلة لاحقة احتاج إلى كتابة الأحكام وعثر في مختصر خليل على قوله ( ... واتخذ كاتبا ...) وتتسلسل الأحداث فندخل عصر الدولة الحديثة وتتدخل في تنظيم القضاء ، وكان التركيز على وجود قاض تابع لها يختار كاتبا او كتابا تتعاقد معهم وزارة العدل . ولم يسمع باسم كاتب الضبط إلا بترجمة عن القانون الفرنسي حين أخذ منه التنظيم القضائي ، فتم اكتتاب أول دفعة أطلق عليها هذا الإسم في ثمانينيات القرن الماضي ، ليعاني موظفوا القضاء الجدد من نظرة تقليدية من طرف القاضي والمجتمع ظلت تلاحقهم إلى عهد قريب ، أنهم أعوان للقاضي وليست عليهم مسؤوليات تترتب عليها آثار قانونية على المنتج القضائي ، وبالتالي لابأس بتعيينهم وانتدابهم من طرفه ، وتجذرت تلك النظرة حتى تسربت إلى بعض القوانين الإجرائية ، فتجد في بعض موادها إمكانية الإستعانة بشخص من الإدارة أو من يكتب ويقرأ في عدم وجود كاتب ضبط ، وإن قيدت تلك المواد - دائما - هذا الإنتداب بعدم وجود كاتب ضبط نجد بعض القضاة - للأسف - ينزع بسبب أو بآخر - إلى استخدامها في وقتنا الحاضر ، بعد أن أصبح موظفوا كتابات الضبط بالمئات ، وهذا الخلل وإن وجد مسوغا في القانون إلا أن نقصا في فهم القواعد المهنية العصرية لدى البعض يغذيه ، وسيختفي حين تدرك وزارة العدل أهمية وجود مؤسسة كتابة الضبط وضرورتها لعمل قضائي رصين ومضمون الأهداف ، ودورها في صيانة حقوق المتقاضين وحماية العمل القضائي من الضياع وعدم الجدوائية ، وحين يدرك القضاة أنها مؤسسة إدارية تتولى عنهم الجوانب الإدارية من العمل وتخرج مجهوداتهم في الأحكام وبناء المنظومة القضائية في شكلها المصان بالأرشفة وحسن الإستهلاك وحتى باللياقة المطلوبة ، وأنها واجهة عملهم وثمرة نظرتهم للمرفق الذي يرأسونه .
حين يصل السادة القضاة إلى هذه المرحلة من الفهم لدور كتابة الضبط ، وتصل وزارة العدل إلى اعتبارها مؤسسة تمثل حلقة وصل بينها وبين القضاء " المستقل" ، وفوق ذلك مسؤولة عن إدارة العمل القضائي وما يتطلبه ذلك الدور من استقلالية وحبك للنصوص الناظمة ، حينها سنصل إلى قضاء راق واضح المعالم متمايز الإختصاصات ، يجد فيه المتقاضي سعة من أمره وفسحة تطمئنه على حقه .
وهنا أشيد بحديث معالي الوزير حيمود رمظان عن كون الإستقلالية تعني كتابة الضبط، وعن كون كتاب الضبط ليسوا أعوان قضاء بل مكونة قضائية لها أدوارها الخاصة المكملة لدور مؤسسة القاضي .
شكرا معالي الوزير ولكن تجسيد ذلك يتطلب العمل على تطوير العقليات ،الذي يبدا من فرض واقع وجود هذه المكونة من خلال النصوص ومن خلال تفعيل نظامها الخاص حتى تظهر جدوائتها .
إن هذه المكونة القضائية كانت من ضمن اختصاصاتها منذ البدأ جميع المهام ذات الصلة بطابعها المهني كالتوثيق والتنفيذ ، والمهنتين ليستا سيان فالتوثيق لصيق جدا بمهام كتابة الضبط إن لم أقل إنه صلب عملية الضبط ، أما التنفيذ فإن أسند لها فشيء جيد يعني تعليبا صحيحا للمنتج القضائي الذي يبدأ تصنيعه من كتابة الضبط وجميل أن تحتفظ بماركته . واستعادة هذه المهام قد تتم بطريقة حميدة كأن يتم دمج العاملين بها في أسلاك كتاب الضبط مثلا .
ليست هذه وحدها مكامن الغبن ففي التعيينات والترقيات والتكوينات ما يخجل الحديث عنه .
إن استمرار التكوين يعني تطور الأداء المهني، وإن تفعيل دور الرقابة يعني خلقا لجيل مهني خدوم وفاعل ، وإن ملاك هذا كله تفعيل مبدأ المكافأة ولو بملاحظات تقدم من طرف وزير العدل أو من طرف المجلس الأعلى للقضاء.
وعلى ذكره لا أفهم تغييب كتاب الضبط عن هذا المجلس الذي ترسم فيه سياسة القطاع ، كما عن الجمعية العامة للمحاكم .
من هذا نستخلص أن إصلاح كتابة الضبط على النحو الذي أرادت لها الدول المتقدمة التي أخذنا عنها بعض الأنظمة القانونية يشكل ضمانة لقضاء قوي صالح للإستقلالية ولتأمين الحقوق وليكون محل ثقة للمتقاضين و " للمستثمرين" ، كما أن تنمية مواهب وقدرات الموظفين العاملين بهذه المؤسسة تجعل منها تربة صالحة لإنتقاء من يحتاجهم القطاع من قضاة ومديرين ورأساء مصالح في كل وقت ، بل يمكن - وهي الأحسن - أن تكون بوابة ولوج القضاء إذا استمر الإكتتاب فيها والتكوين والترقية ، لنجد في بضع عقود قضاء نموذجيا.
وبداية هذا الإصلاح الإستعانة بخبراء وببعض من مارسوا العمل بكتابة الضبط لسنين طويلة ، وسيحصل المقصود، وفوق كل ذلك إرادة جادة لإصلاح قطاع العدل أبان معالي الوزير - حتى الآن- عن بعض معالمها نرجو أن يوفق في تنفذ مساعيه.
ذ/ باب ولد امان