الوالي محمدْ محمود ولد أحمدْ رحمه الله : الإداريُّ والإنسان

..

كان منصب الوالي المساعد المكلف بالشؤون الادارية في ولاية لعصابة هو أول منصبٍ أتقلده في الادارة الاقليمية ضمن التحويلات الواسعة الحاصلة يوم 10 اكتوبر 1990 في عهد وزير الداخلية آنذاك سيدْ أحمدْ ولد بابَ..وكان الوالي آنذاك محمدْ محمود ولد أحمد رحمه الله  هو أول سلطة إدارية أعمل تحت إمرتها بعد تجربة تسعة أشهر في الادارة المركزية أو ما يسمى اصطلاحا " گراجْ " أدركت فيها يسيرا من العهد السلطويَّ المشهود للوزير جبريل ولد عبد الله و أمينه العام المهندس افَّالْ عمر ، و شهدتُ فيها كامل فترة الوزير الراحل سيدينَ ولد سيديا رحمه الله و عرفتُ مستهلَّ فترة من له الفضل في ولوجي معمعانَ الادارة الاقليمية لأول مرة و "ترقيتي" لاحقاً حاكما في مقاطعة كيهيدي في 16 يناير 1991 معالي الوزير الشيخ سيد أحمد ولد باب ولا أذكر أنني لقيته في حياتي ..ولكلا التعيينيْن قصة وإن كان السبب في كل منهما واحد هو أخي في الله و صديقي الاداري المثالي المشهور محمدي ولد صباري حفظه إذ كان سببا مباشرا في التعيين الاول و بواسطة في التعيين الثاني..أما بالنسبة للتعيين الأول فلمحض الصدفة . ذلك أن الوزارة انتدبتني قسرا منتصف سنة 1990 ضمن لجنة إشْراف على الاحصاء الاداري في مقاطعة الميناء العملاقة قبل أن تقتطع منها مقاطعة الرياض .. وبالرغم من أن هذا الاحصاء كان تمهيدا لإعداد اللائحة الانتخابية ،و لمَّا يوصمْ بعدُ بالطابع الانتخابي المقتصر على الناخبين.كان حاكم مقاطعة الميناء  آنذاك هو محمدي ولد صباري ذو الكفاءة العالية و التواضع الجم و سرعان ما توافقنا وائْتلفتْ قلوبُنا .. وفجأة جاء وزير جديد و صادف أن كانت تربطه بالحاكم علاقة وطيدة بموجبها جعل الوزير من حصيلة الاحصاء اليومية في مقاطعة الميناء نموذجا يطلع عليه باكرا صباح كل يوم ..وكانت تلك مناسبة لإتقان العمل وفرصةً لتثمين جهود الحاكم و الفريق المشرف من الوزارة..ولكن ذلك لم يكن حاسما في التعيين المذكور، إنما الأمر الحاسم فيه حقا هو أن السيد الحاكم تمت ترقيته مستشارا فنيا للوزير و بموجب ذلك صادف مشروع تحويلات وشيكة في الادارة الاقليمية فوُكِلَتْ اليه مهمة مراجعته بعد اعداده من قبل الأمين العام فأضافني إليه بعد أن أغفلني المشروع المقترح.أما التعيين الثاني فالسبب فيه أن الحكومة أرادت استبدال حاكم كيهيدي فجأة إثر الانتخابات البلدية المنظمة هناك نهاية سنة 1991 و اشترط فخامة رئيس الجمهورية السيد معاوية ولد سيد أحمد الطائع على الوزير توفر شروط معينة في الحاكم البديل وكان من حظي أن تُوُسِّمتْ فيَ تلك الشروط من باب الستر الجميل بالرغم أن تجربتي في الادارة الاقليمية لا تتجاوز الثلاثة أشهر..وكان ذلك باقتراح من صديقي في الدراسة الاعدادية الامين العام الجديد محمد ولد الشيخ عبد الله و بإيعاز من المستشار محمدي ولد صباري.. 
وأعود فأقولُ :وصلتُ مدينة كيفة يوم 25 اكتوبر 1990 فنزلت عند منزل الوالي الجديد محمد محمود ولد أحمدْ ولم تكن بيني وبينه معرفة سابقة وبالرغم من ذلك أحاطني برعايته المعهودة و غمرني بعطفه المعروف ..و اسمحوا لي أن أتوقف هنا قليلاً لأروي موافقةً غريبة كانتْ مستهلَّ تجربتي العملية في الادارة الاقليمية.أخذت مكاني في المكتب الجديد باكرا في اليوم الموالي لوصولي الى مقر عملي في مدينة كيفه عاصمة ولاية لعصابه.. وكان مكتبي لم يخلُ بعدُ من بعض الوثائق الخاصة للمساعد السابق المرحوم افَّالْ أحمدو مسعودْ المحول بدوره إلى ولاية تگانتْ.. وفجأةً دخل دون سابق إنذار أول مواطن من ولاية لعصابه أستقبله في المسار المهني الجديد ، فإذا به المرحوم الزايد ولد بو اسحابْ و كنت وإياه قد اشتركنا في عضوية أول مجلس في بلدية ابيْرْ التورس سنة 1988م و قبل ذلك في الإنتماء إلى دائرة المقربين من شيخنا الشيخ احماده بن محمدُّ بن اپَّا في قرية انيِفْرارْ رحمه الله ..كاد الزائر أن لا يفقه ما يقول لسبب سرعان ما أفصح عنه فقال: أنا مسؤول عن تسيير محطة للبنزين لأحد الأقرباء عند المدخل الغربي لمدينة كيفه  .. وقد ضبطني الوالي نفسُه أمسِ عشيةً متلبسا بمخالفة التعليمات الرسمية التي تلزمنا بأن نكفَّ عن بيع الوقود إبتداءً من حدٍّ أدنى معيَّنٍ إلا برخصة من السلطات الادارية.. و قد وُصدتٌ المحطة و استدعيتُ الى الولاية في الساعة الثامنة من صباح اليوم .. و رأيتُ البارحة في ما يُرى النائمُ أنني أتيتُ الولاية و دخلتُ على الوالي في مكتبه فإذا به شيخنا الشيخ احماده رحمه الله ! قلت : إذن عد إلى محطتك و استأنف بها عملك و سأتحمل المسؤولية نيابة عنك لدى السيد الوالي !
وكانت تلك المبادرة مؤذنة لعملي في الادارة وبعلاقتي الطيبة مع السيد الوالي محمد محمود ولد أحمدْ رحمه الله .
اتخذتُ تلك المبادرة و تحملتُ تلك المسؤولية نظرا لانعدام التجربة الادارية .. إذ ليس للوالي المساعد أن يتخذ أيَّ مبادرة أو يتحملَ أية مسؤولية في حضور الوالي أو أي مساعد آخر أقدم منه في العمل عسى أن يكون أولى منه بالوكالة حالة غياب السيد الوالي .و بتلك القاعدة الادارية الراسخة تذرع أخونا الوالي المساعد محمدن ولد ابَّامِينْ مرة في إحجامهِ عن الأمر بالقبض على الجاني بحضوره على السيد الوالي بحجة أن لا تصرُّفَ للوالي المساعد في أي كبيرة أو صغيرة عندما يكون الوالي نفسه حاضرا .. وفي هذه الحالة فإن الوالي - كما يقول - كان حاضرا للجناية المرتكبة في حقِّهِ!
إن من أهمِّ صلاحيات الوالي المساعد هي أنه يتقاسم العمل بخصوص مراسلات الوالي مع السكرتير و  البواب بإنصاف كبير : إذ هو من يقوم بتحرير مشاريع الرسائل أو التقارير المعدة لتوقيع السيد الوالي و السكرتير هو من يتحمل مسؤولية طباعتها على الآلة الكاتبة و ختمها و ترقيمها و حفظها بعد التوقيع والبواب هو من يوصل بعض هذه المراسلات إلى المصالح الجهوية المعنية ، وربما تدافع المساعد و السكرتير مسؤولية الأخطاء المحتملة.
ومهما يكن من أمر فقد تعلمت من الوالي الفقيد أشياء كثيرة في التحرير و التسيير إذ واكبني بصدق وإخلاص في خطواتي المهنية الأولى في الإدارة الاقليمية.أما التحرير فقد ساعدتني في شأنه تجربتي الصحفية السابقة الدراسية والمهنية و أما التسيير فقد ساعدني  فيه أن كنت ملازما للسيد الوالي في المكتب في أوقات الدوام الرسمي وفي المنزل في أوقات الوجبات المعتادة.وقد مكنتني المواظبة المنزلية على التعرف على نمط آخر من التسيير هو التعامل خارج الاطار الرسمي مع المسؤولين العسكريين و المدنيين في الولاية و مع مختلف الضيوف من البعثات الرسمية الوطنية والاجنبية . و في ذلك الاطار استقبل الوالي في أحد الأيام زميله السيد ولاّدْ ولد حيْمدونْ والي الحوض الشرقي القادم من النعمة في طريقه إلى انواكشوط .. وسمعته يقول للوالي إنه فوجئ باستدعائهِ رسميا إلى انواكشوط لا يدري لأي سبب وعساه يكون خيرا.. وخلال ذلك اللقاء سمعتُهما يتحدثان بإسهاب و إعجاب عن إدارييْن هما : چاگلي ولد المختار و عمر ولد امحيْحم رحمهما الله و يوردان قصصاً معبرة من صرامة الاول و طرافة الثاني ..و بعد مقيل طيبٍ واصل الوالي الضيف طريقه إلى انواكشوط و بعد يوم أو يومين فوجئنا به يعين قائدا للحرس الوطني و في اليوم الموالي كانت مفاجأتُنا أكبر بتعيين محمد محمود مكانه واليا في الحوض الشرقي بينما عيِّن في كيفه الأخ الأكبر محمد ولد عبد الله بن رافع حفظه الله. وهكذا فإنَّ تجربتي مع الوالي محمد محمود ولدأحمد رحمه الله لم تبلغ شهرا بمقياس الزمن السيار و لكنها كانت مضاعفة بكل المقاييس الأخرى و منها علاقاتنا الشخصية الحميمة التي توطدت لاحقاً و خاصة عندما أصبح واليا لولاية اترارزة حيث حظيتُ باستعادة رئاسته علي من جديد ولكن في هذه المرة بصفتي أحدَ المواطنين التابعين لدائرته الإدارية.وفي هذه المرة كذلك ازددتُ إعجابا بالرجل الاداريِّ و الانسان ، جزاه الله عني بالاحسان .أعزي فيه جميع أفراد أسرته الخاصة و العامة ..تغمده الله برحمته الواسعة و إنا لله إليه راجعون ..

رحم الله السلف وبارك في الخلَف .

محمد سيدي بدنا

سبت, 03/04/2021 - 10:19