يتحدث القاضي الفقيه الشيخ أحمد يورو كيدي في مقابلته مع مجلة المعهد الصادرة عن معهد اللغة العربية في موريتانيا عن مسارات متعددة من تاريخ القرآن ولغته في مناطق الضفة، كاشفا الستار عن معالم أساسية من تاريخ البلاد، وتاريخ التضامن الإسلامي بين مختلف طوائف المجتمع الذي ألفه القرآن ولغته
أجرى المقابلة : محمد سالم بن محمد
: لنبدأ من مكانة اللغة العربية وفضلها في الإسلام
القاضي أحمد يورو : إن هذا القرآن الكريم نزل بهذه اللغة تعظيما لها وتشريفا ، ولو أن لغة أخرى كانت بذلك الكمال والحسن والتكامل وعمق الأسرار التي حبا الله بها العربية لصح أن تبرك بها القرآن وقد اجتمع اللغة العربية هذا الكمال والحسن والأهلية لأن يكون وعاء لكتاب الله تعالى وسنة رسوله ، ثم ازدادت المكانة بأن هذه مشيئة الله تعالى ، ولايسأل عما يفعل وهم يسألون .
وعلى هذا فإن مكانة اللغة العربية في الإسلام أصيلة ، فقد استودعها الله تعالى أسرار دينه وأحكام شريعته وبيان حكمته وألفاظ كتابه ، وعليه فلا يمكن لأي مسلم أن ينهل من معين القرآن والسنة ما لم يأخذ بزاد من اللغة العربية .
ماذا عن اللغة العربية في مجمع الزنج الموريتاني ؟
القاضي :
اللغة العربية والإسلام توأمان لا ينفصلان ولا يفترقان ، وإذا استنطقنا التاريخ وجدنا أن الذين حملوا القرآن والفتح الإسلامي هم الصحابة العرب الأقحاح الناطقون بالعربية .
وإذا عدنا إلى التاريخ الموريتاني ، فإن الإسلام دخل باكرا إلى الأصقاع الموريتانية ، وقد كانت هذه الأرض تحت سيطرة مملكة غانا التي لا تزال بعض آثارها ماثلة في كومبي صالح بمقاطعة تامشكط بالحوض الغربي ولقد كانت هذه الإمبراطورية هي الدولة الإفريقية التي كانت ممتدة من التشاد إلى المحيط الأطلسي ومن الصحراء الكبرى إلى أدغال إفريقيا وقد كان أهلها مسلمين .
وقد كانت هذه السلطة موجودة في القرن الثاني الميلادي ، ووصل الإسلام إلى كومبي صالح سنة 61 هجرية ، وقد أتى بالإسلام عقبة بن نافع الفهري سنة وفاة معاوية بن أبي سفيان .
وعليه فالإسلام قديم في هذه المنطقة ، ثم جاءت بعد ذلك قرون من الفراغ التاريخي جهلت فيه أخبار المنطقة وغابت عن صفحات التاريخ والتدوين واستمر ذلك إلى سنة 418 ميلادي تاريخ حج يحيى بن ابراهيم الكدالي ومروره على أبي عمران الفاسي وطلبه منه أن يرسل معه طالبا معلما يعيد للإسلام نوره وألقه في هذه البلاد ورفض الطلاب الانتقال إلى هذه الصحراء لصعوبتها فوجهه أبو عمران الفاسي إلى تلميذ له بمدينة سوسه المغربية إسمه وجاج بن زلو اللمطي ، ومن عند وجاج انطلق عبد الله بن ياسين الحزولي مع يحيى بن ابراهيم وانطلق الرباط والإشعاع المرابطي ، وبدأت صفحة جديدة من تاريخ هذه البلاد .
في هذه الفترة كانت منطقة حوض النهر تحت حكم مملكة التكرور وكان ملكها حينئذ وارى جابي انجاي ووالده أسلم قبله واسمه رابيس وقد أسلم على يد تاجر إباضي وعلى يد هذا التاجر الإباضي التونسي كانت شعلة الإسلام الأولى .
وقد اختار واري جابي انجاي مجموعة من الفرسان الأشداء والتحق بالمرابطين، وعلى رأسهم ولده واسمه لبو .
وبهذا كان جيش المرابطون مكونا من أمير البربر يحيى بن ابراهيم وأمير التكرور إضافة إلى المرشد المؤسس وهو الإمام عبد الله بن ياسين وكان هؤلاء هم النواة الأولى للدولة المرابطة .
دعك عن الخلاف التاريخي هل ذهب المرابطون إلى منطقة السنغال أم إلى تيدره على المحيط الأطلسي ، فذاك خلاف لا يقدم ولا يؤخر فيما نحن بصدده من الحديث عن أولية الإسلام والعربية في هذا المجال الموريتاني .
وقد شارك الجيش السوداني في الغزو الإسلامي للشمال سعيا إلى إعادة الإسلام بعد ارتداد قوي وجماعات في آدرار عن الإسلام فانطلق إليهم الجيش المرابطي وأعادهم إلى الإسلام وفي حروب إعادة الإسلام إلى آدرار استشهد لبو بن وارى جابي انجاي ودفن في آمكجار بولاية آدرار وقبره معروف هنالك .
وتتحدث المصادر التاريخية عن كون مجموعات كبيرة من الزنوج الموريتانيين كانت تقطن في الشمال الموريتاني وفي الوسط، حتى إن اديني الواقعة شرق انواكشوط كانت مواطن " كانات " المعروفين لأن في توردو وضفاف النهر، وقد أجلاهم الأمراء التروزيون عن المنطقة ضمن الحروب التي كانت تقع بين سكان هذا المجال الموريتاني.
وممن ذكر ذلك الشيخ العالم محمد ولد أحمد يوره في كتابه إخبار الأخبار بأخبار العيون الآبار، وذكر أن الآثار الموجودة في إديني هي مما ينسب للشيخ أليمان بوبكر كان وقومه من الكانات الذين انزاحوا بعد ذلك جنونا إلى منطقة انتيكان.
وبسبب الحروب انتقلت مدرسة الكانات العلمية إلى منطقة كاني قبل أن تنتقل إلى منطقة كيدي في جنوب النهر حاليا، وفي تلك الفترة كان في منطقة فوتا مملكة "دنياكون" ولم يكونوا بالغي التدين بل يمكن القول إنهم كانوا إمارة فيها ظلم وخروج كبير عن الشريعة الإسلامية
وقد هجر أمراء دنياكون بدورهم أيضا مدرسة المشايخ هذه أيضا إلى منطقة كاجيور في السنغال، وفي منطقة تسمي بيلسنكور، كانت هنالك مدرستان عامرتان، وفيها درس كثير من الفوتيين، وهو مما يؤكد أصالة اللغة العربية في منطقة الضفة
وحتى في زمن إمارة دنياكون الذين لم يكونوا متدينين بالحد الكافي فإنهم عقدوا اتفاقيات مع الأوربيون وكان الشيوخ الفوتيون هم الذين يكتبون النص العربي ويكتب الأوربي النص اللاتيني.
وقد كان من الملوك المشهورين في هذه الفترة صمبا كالاديو ووالده كان حيا في سنة 1726 ووقع اتفاقيات مع الغربيين والشيوخ الفوتيون هم الذين كتبوا النص العربي للاتفاق.
لكن اللغة العربية وجدت قوة ورسوخا مع دولة الأئمة وهم شباب مثقفون درسوا في سنيكور وفي كاجيور وعادوا إلى فوتا وأطاحوا بدولة دنياكون، وأقاموا على أنقاضها دولة الأئمة وهي دولة إسلامية قوية
وكان من شروط الأمير في دولة الأئمة أن يكون حافظا لكتاب الله تعالى حفظا متقنا حافظا لنص الشيخ خليل وتحفة ابن عاصم إضافة إلى علوم اللغة العربية من نحو وصرف وبلاغة وإلى علوم التفسير والحديث، فمن حاز هذه المعارف الموسوعية أمكن اختياره للخلافة
وأول هؤلاء الأئمة هو الشيخ المامي عبد القادر كان الذي جاء بعد الشيخ المؤسس الشيخ سليمان بال
وللشيخ المامي عبد القادر علاقات قوية بالعلماء البيظان ذلك أنه درس عند أهل العاقل الديمانيين، وعندما زار الشيخ النابغة الغلاوي بلاد فوتا كتب له الشيخ عبد القادر كتاب تأمين إلى كل القرى التي يمر عليها "أن أكرموا هذا الرجل فهو من العلماء ومن أشياخي فأكرموه وأبلغوه مأمنه"
وقد عمل الشيخ عبد القادر على وضع نظام حكم إسلامي فعين القضاة والوجهاء وفتح المدارس وعين المدرسين والمعلمين ونشر دين الله سمحا وسطيا وتركه كلمة باقية لدى من بعده من الأئمة رحمهم الله، وكان فترة الأئمة هي الفترة الذهبية للغة العربية في منطقة الضفة، ثم إنهم أيضا رسخوا الفقه المالكي في هذه المنطقة وأخذوه ربما قبل ظهور عبد الله بن ياسين ثم زاد ظهور المرابطين الفقه المالكي رسوخا في منطقة الضفة.
ومن أشهر العلماء الفوتيين، الشيخ خيار كاه لأنه يمثل الحلقة الأولى في أكثر سلاسل النحو في هذا القطر الموريتاني فقد ذهب إلى مالي الحالية ودرس النحو على شيخ من قبيلة ماسينا الفلانية، وهذا الشيخ كان قد أخذ النحو عن الشيخ الأشموني شارح ألفية ابن مالك
والحق أن المصادر التاريخية لما تسعفنا بعد باسم ذلك الشيخ الماسيني، رغم البحث القوي منا ومن غيرنا، وإلى هذا الرجل الماسيني تمر عبر هذا الأشموني ولعل ذلك هو المقصود في قول مم بن عبد الحميد رحمهم الله
وشيخنا في نحوه المصون متصل الإسناد بالأشموني
وقد نظمت هذه السلسلة عندما سمعت هذه المعلومة لأول مرة من رجال ثقات فقلت
وجكني الأصل يحظيه البطل وفي كنان منزل به استقل
وهو عن الكناني نجل الزين الحسن النحوي مزيل الرين
عبد الودود عبد الله الفغي
الكامل المتقن مما ينبغي
بلا بن الحاج الحسني الشقروي
أتقن مما قد أجيد وروي
ونجل بونه الجكني العلم
عن علوي اسمه لا يعلم
وهو الفوتي الذي قد جهلا
عن آخر فوتي سعى واحتملا
مشقة السفر للأشموني
من مصر حتى عاد كالعرجون
ونشر النحو الذي قد أخذه
من معدن صهره ونشره
ومنهم انتشر في الآفاق
نحو العراق العلم الخفاق
أخبرني جمال نجل الحسن
ذا السمط والغير به لم يعتن
وشاعر العصر الذي قد أيدا
ذا النقل راو قوله مؤيدا
وقد واصلت البحث حتى تأكد لي أن خيار كاه رحمه الله تعالى مر بمدينة تجكجة وفي مكتبة آل سيدي عبد الله بن الحاج إبراهيم وثيقة بخطه فقلت
وخط خيار بتجكجة رئي
عند ذوي سيدي الشريف المقرئ
وخيار كاه هذا هو شيخ المختار بن بلعمش في النحو وعلى ابن بلعمش درس المختار بن بون رحمه الله
وهذه سلسلة أولى وثم سلسلة أخرى هي سلسلة الحارث بن محنض الشقروي وقد درس عليه شيخان منا هما الشيخان أحمد مختار آن والشيخ أحمد مختار ساخو
والشيخ أحمد مختار ساخو هو قاض دبانكو (بوكي) المشهور وفيه يقول الشيخ باب ولد الشيخ سيديا رحمهم الله
وقد درسا على الشيخ الحارث وتضلعا من معارفه ثم عادا وأنشأ كل واحد منهما مدرسته
وقد قلت في ذلك
والحسني الحارث الركيزي
عمدتنا في النحو والتمييز
عن حارث أخذ مختاران
ساخي وآني فرسا رهان
والثاني شيخي والذي قد ابتدي
جد صديقي الإمام المهتدي
والشيخ أحمد مختار آن هو شيخ العلامة محمد بابا بن الصديق الفلاني وهو الذي درس عليه الشيخ محمد بوبكر كان، وعلى هذا الأخير درس شيخي
ولذلك قلت
محمد معدن سر النحو
ذو الذوق في الصرف صحيح العزو
وارث نجل الصديق الأبر
السيبويهي المكمل الأغر
شيخ الشيوخ العالم الرباني
نجل أبي بكر عظيم الشان
وعنه عبد دمب شيخي الأجل
الكامل السني المدقق الوجل
الشاعر المفلق ذو الإعجاز
يمتاز بالوضوح والإيجاز
معدن حكمة ولله دعى
متبعا ويسعد المتبعا
ثم عدت إلى الحارث فقلت
على ابن عبدم الأجل المفلق
تعلم الحارث وابحث ..حقق
وأخذ ابن عبدم الديماني
عن المعي العالم الصمداني
معي تتلمذ على المختار
الجكني الصرف ذي الأخبار
تتلمذ ابن بونه عند القرشي
العالم المقتدر البلعمشي
إلى هنا انتهى إلى خيار
سلاسل القوم بلا إنكار
وقد تتبعت شيوخ النحو وسلاسله من علي بن أبي طالب رضي الله عنه وحتى شيوخنا ولا يزال ذلك الانقطاع بسبب غياب اسم الشيخ الماسيني قائما لما يجبر كسره لحد الآن
وإنما قدمت بهذا ليعلم أن اللغة العربية كانت اللغة الرسمية للعلم والقضاء والإفتاء في مجتمع الزنوج الموريتانيين.
هل تحفظون شيئا من شعر أو فوائد شيخكم عبدل دمبا
القاضي : للشيخ عبدول دمبا قصائد ونوادر وفوائد كثيرة وأحفظ منها قوله في المواريث
فهاك أوجها من الميراث
أربعة تفيد للوراث
فاثنان مع ثلاثة مع ستة
فيه التداخل بغير مرية
فالعمل استغناء بالكثير
عن القليل دونما تغيير
أما التوافق فأربعا جعل
الخ
ولديه فوائد أخرى متعددة وتقييدات بالغة الأهمية تغمده الله برحمته، فقد توفي في 2004
ماذا عن طلبك للعلم وعن مشايخك العلماء؟
القاضي : أنتمي بحمد الله تعالى إلى أسرة مثقفة تتعاطى العلم والثقافة الإسلامية، فقد درست القرآن الكريم على والدي ثم ذهبت بعد ذلك إلى ابن عم لي فواصلت عليه دراسة القرآن وفي سنة 1959، ذهبت إلى شيخي عبد الرحيم بن دمب الكندلي وهو من أهل قرية كندل، وعليه درست القرآن أيضا وبعض المتون المتعلقة به في الرسم والمقرأ، وعليه درست أيضا اللغة والنحو والفقه والتفسير، وذلك في الكتب التالية ابتداء من الأخضري وابن عاشر والعشماوية وأسهل المسالك ورسالة ابن زيد أبي القيرواني وتحفة ابن عاصم وثلثي مختصر الشيخ خليل، وكذا كتب اللغة العربية
وهي نفس المتون التي تدرس في محاظر الشمال، وما ندرسه في محاظرنا هو نفس ما كان يدرس في محظرة الحارث بن محنض الشقروي رحمه الله
وقد درست على الشيخ من 1959 – 1964 وكانت محظرته كبيرة جدا في قرية كندل، وتلاميذه يزيدون على ثمانين طالبا، ولكل واحد من هؤلاء الطلاب طلاب آخرون يدرسون القرآن الكريم، ثم أصاب هذه المحظرة ما أصاب غيرها من هجرة الطلاب إلى المدن فلم يبق فيها إلا ثلاثة رجال كنت أحدهما.
وبعد أن أجازنا وذهبنا نحن الثلاثة، انتهت محظرة شيخنا عبد دمب ولا أرى أنني رأيت عالما في علمه باللغة العربية وإحكامه لقواعدها وفهمها
وقد كان شيخنا عبدل دمب يدرس اللغة العربية في مدرسة الشيخ محمد كان وهو تلميذ، وكان شيخه يحيل إليه تدريس العربية ومتونها
وكان من المتون اللغوية والشعرية التي تدرس في محاظرنا البردة والهمزية وبانت سعاد ولامية العرب وابن وهيب ومقصورة ابن دريد وديوان الستة الجاهليين، ومقامات الحريري، وكانت دراسة هذه المتون تتم بشكل معمق وأكاديمي، وكان الشرح باللهجة البولارية، وقد تسربت كلمات كثيرة من العربية إلى البولارية وخصوصا ما يتعلق بالحقل الديني
ومنذ عهد الأئمة إلى ما بعد الاستقلال بقليل كانت اللغة العربية لغة التعليم والإفتاء والقضاء وكانت مضامنيها المعرفية هي مناهج الدراسة في محاظر الضفة، فكانت تدرس نفس المقررات التي تدرس في محاظر الناطقين بالعربية من سكان هذا البلد.
ماذا ماذا عن دور الفرنسيين في إحداث القطيعة اللغوية بين أبناء هذا البلد؟.
القاضي : فتح الفرنسيون مدارس في مناطق مختلفة من الضفة، ولكن الشيوخ كانوا لها بالمرصاد، ومنعوا الناس من أن يتعلموا اللغة الفرنسية، وكانوا يحذرون الناس منها ويقولون لهم إنها لغة الكفار وأهل النار، وقد اجتمعت على ذلك كلمة جميع الشيوخ، وكان يقولون في مواعظهم من أخذ بيد ولده إلى المدرسة الفرنسية فإن ولده سيأخذ بيده إلى النار
ولهذا عزف الناس عن المدارس وابتعدوا عنها، حتى كان بعضهم ينفر من العمل في وظائف الدولة بعد الاستقلال حتى بالنسبة للذين درسوا اللغة العربية، لأنهم كانوا يريدون أن يبقى الناس على نفس السجية والطباع التي كانوا عليها قبل مجيء الاستعمار.
ثمة حديث عن حرق الفرنسيين لعدد من المكتبات في منطقة الضفة؟
القاضي : الفرنسيون حرقوا مدنا متعددة على طول النهر، لأن الناس كانوا يمنعون سفن الفرنسيين الباحثة عن العبيد والذهب من المرور من سينلوي إلى خاي عبر المياه الموريتانية التي كان يقطن ضفافها قرى الزنوج الموريتانيين
وكانوا للفوتيين السبق في هذه المقاومة، فكانوا يطلقون النار عليها ويواجهونها، فاستخف الفرنسيون جيشهم ووسائلهم الحربية المتقدمة وأحرقوا عددا مثل قرية آواندي الموجودة ضمن منطقة امبان، وقد انكسرت مقاومة الفوتيين بسبب عدم التكافئ بين القوتين
المعهد : من تذكرون من أعلام المقاومة في منطقة الضفة
القاضي : ثمة عدد كبير من المقاومين من العلماء والأمراء ومنهم على سبيل المثال الشيخ أبو بكر كان الذي منع من مرور خط التلغراف الفرنسي من أراضي بلاده، ولكن الفرنسيون أرغموه حتى هاجر وبعد ذلك قتله الفرنسيون
ومن أولئك الشيخ عمر الفوتي ومنهم الشيخ عبد القادر كان فقد كان من شيوخ المقاومة الأبرز في هذه البلاد، وقد كتب عدة رسائل إلى الفرنسيين يطلب منهم إلا أن يأتوا إلى منطقة فوتا وأن لا يشتروا منها عبدا، والشيخ عبد القادر كان كان هو أول من حرم بيع العبيد وشرائهم في منطقة فوتا وذلك لفشو الاسترقاق بغير وجه شرعي بين الناس وسريان الفوضى في المنطقة، وكان يقول إن الرق القائم حينئذ ليس له أصل إسلامي ولا رق بدون كفر سابق ودعوة إلى الإسلام فجهاد قد يكون من نتائجه الرق، فكان يقول إن جميع الذين يباعون ويشترون حينها لم يكن لرقهم أصل إسلامي
ولهذا كانت دولة الأئمة دولة للتحرر ومواجهة الاسترقاق، عكس دولة دنياكون التي كانت من أبرز مصادر الاسترقاق في المنطقة.
أين اتجهتم بعد المحظرة؟
القاضي : توجهت إلى القضاء باختياري وترقيت في مراحله، وقد أتيت إلى العاصمة سنة 1967 ، وفي سنة 1969 أجرت وزارة العدل مسابقة لاختيار كتاب ضبط، أي أدنى درجة في كتابة ضبط، فشاركت فيها، ونجحت وفي سنة 1971 شاركت في مسابقة أخرى لكتاب الضبط العدليين ودرسنا مدة سنتين في المدرسة الوطنية للإدارة
وكان من أساتذتنا في تلك الفترة القاضي بيه ولد السالك والقاضي أحمدنا ولد أحمد مالك، ومحمد عبد القادر ولد ديدي، وأحمد سالم ولد أكاه، والتراد ولد عبد القادر، والقاضي محمد بن أحمد البشير، وبعض الأساتذة التونسيين والمصريين
وفي سنة 1983 وبموجب قانون تطبيق الشريعة الإسلامية قررت الدولة إجراء مسابقة لاختيار قضاة شرعيين، وترشحت للمسابقة الداخلية وكانت تريد 20 قاضيا وشاركت في المسابقة ونجحت أنا وزميل لي الحضرمي بن محمد الخضير كنا في رتبة واحدة، وأول هذه المجموعة رجل اسمه أحمدو ولد حبيب والثاني اسمه محمد محفوظ ولد الطالب أحمذو وهو شقيق لإمام مسجد قطر حفظه الله.
وكنت يومها رئيسا لمصلحة في وزارة العدل، ثم عينت إلى الغرفة المختلطة بمحكمة ولاية لبراكنة مستشارا، ثم حولت بعد ذلك رئيسا للغرفة المختلطة بمحكمة كيهيدي، ثم حولت بعد إلى سليبابي رئيسا للغرفة المختلطة وفي نهاية سنة 1989 حولت إلى النعمة بالحوض الشرقي قاضيا للتحقيق، وفي شهر سبتمبر سنة 1990 حولت إلى بابابي ىرئيسا لمحكمة مقاطعتها وفي سنة 1994 حولت إلى تجكجة رئيسا لمحكمة المقاطعة، وكانت تتبع لها محكمة تيشيت وقد زرت تيشيت مرتين
وقد قلت في زيارة تيشيت عندما اقتربنا من تيشيت، ودونها رمل عالج يصعب عبوره يسمونه لحفيرة.
قطعنا نقا لحفيرة لما نلق هوة
وألقى العصا من كان بالأمس سافرا
ولاحت لنا الواحات تبدو كأنها
نخيل بني الربدا تزين المناظرا
وتيشيت جئناها وتصمد نخوة
وكانت بنشر العلم تبني العباقرا
وزرنا أبا تيشيت ظهرا ولم ندع
أخاه الوفي المستقيم المهاجرا
وجامع عبد المؤمن الضخم غاية
منارته بالعلم تزري المنائرا
دخلنا ودرنا في نواحيه برهة
ومنبره المحمود ينسي المنابرا
وزرنا قبور الصالحين فإنها
جنان لآتيها ولو كان عابرا
لها مكتبات تبهر العقل ضخمة
يرى الباحث النحرير فيها النوادرا
وودعت تيشتت العلوم مخلفا
ورائي جزء من فؤادي ساهرا
ولحفيرة والرمل الفريد وكدية
مررنا بها عصرا نشق الأظاهرا
قفار مرورات علاها تشاؤم
لأمر مريب يجعل المرء حائرا
وقائدنا الوالي وقد كان آية
يلين وقد كان الشجاع المغامرا
ويعلو بنا نجدا وينزل واديا
يكر وينحو الاتجاه المغايرا
علونا على نشز عظيم بصخرة
ولم يشهد الدهر الطويل مجاورا
ولم نر سهلا لا سهيلا وإنما
بأبقر جاوزنا الكدى والمعابرا
الخ هذا النص الذي يصور الرحلة الصعبة قبل العودة إلى تجكجة، وفي زيارتنا هذه كنا نتحدث عن واحدة تيشيت وكيف يغرس النخل فقد كانوا يحفرون حوالي 50 سنتم قبل أن يغرسوها على الماء فتتشرب العروق مباشرة من الماء فقلت لهم إنني استفدت من هذه الزيارة فهم قول امرئ القيس
أو المكرعات من نخيل ابن يامن
دوين الصفا اللائي يلين المشقرا
فلم أكن أعرف حقيقة المكرعات
ماذا عن إنتاجكم الأدبي والعلمي
القاضي : لدي ديوان شعر كبير لا يزال مخطوطا وربما ألقي بين الحين والآخر في المنتديات الوطنية والدولية التي ألقى فيها
بعد أن عرفنا أصالة اللغة العربية في هذا المجتمع، فماهي أسباب ضعفها الآن؟
القاضي : الأسباب متعددة وليست على قدم السواء، وبالنسبة لأهل الجنوب سبق أن عرفنا أن اللغة العربية هي لغتهم الأصلية، ولكن لما جاء الفرنسيون جاءوا بنخبتهم الجديدة التي علموها بالفرنسية، وأسندوا إليهم المناصب ثم تواصل الأمر بعد ذلك، فلم يعد للعربية تلك المكانة التي كانت لها أيام كانت النخبة العلمية والسياسية في مناطق الضفة لا تعرف لغة للعلم سواها
و على كل حال ضعف اللغة العربية ليس ضعفا مفزعا لأن الله تعالى تكفل بحفظها تبعا لحفظ كتابه الكريم
دون أن يعني ذلك استياءنا الشديد من الحال التي عليها لغة القرآن الكريم وحتى في البلدان العربية، فأذكر أنني زرت بلدا عربيا وخاطبت أحد المثقفين وكان أغلب الحضور يتحدث باللغة الإنكليزية فاستأت من ذلك غاية الاستياء
ومرة زرت إحدى الدول المغاربية، فكانت الفرنسية لغة التخاطب بين الوفود وفي أحيان يلجأون إلى دارجة غير مفهومة
وكل ذلك من غربة اللغة العربية وهي من غربة الدين، فتقوى بقوته وتضعف بضعفه، وإني لأرجو أن تلتئم كلمة هذا الشعب حول القرآن الكريم ولغته، فهي لغة دينهم ولغة أجدادهم والله الموفق
ريم افريك