( يبدو أنّ المجتمعات تسير عبر تطورها الحديث إلى تضخم الصراعات بين مختلف مكوناتها وأشخاصها الطبيعية والاعتبارية بحيث يمكن أن يتصور أنّ الكلّ فيها يتصارع مع الكلّ تقريبا بشكل يمكن أن يؤدي إلى قضاء المجتمع بذاته على ذاته فمقولة كارل ماركس المتعلقة بالصراع الذي تسبب في نشأة الدولة لا نزال نعيش ما يشهد على صوابها خاصة في مجتمعات العالم الثالث ذلك أنّ الأحزاب والحركات السياسية ذات الأهداف والمشارب المتعددة والمتباينة في مجمعنا الحديث تتصارع على السلطة التي يمكن أن يساء استعمالها بحيث تكون مطية لممارسة الفساد وانتهاك حقوق الإنسان عبر مضايقة من يمارسها للمعارضين له وغيرهم وتتصارع المؤسسات والتجار على الزبناء وتتصارع مع هؤلاء جميعا جمعيات حماية المستهلكين لأمور تتعلق بجودة المنتج وسعره وتجابه نقابات العمال أرباب العمل من أجل الحصول على مكاسب عمالية مجابهة تؤدي بهم في بعض الأحيان إلى الإضراب ....
إنّ هذه الصراعات المتعددة والمتشعبة والتي يمكن أن تتسم بالحدة في بعض الأحيان دفع البحث عن طريقة بها يتم تلطيفها وحلّها بشكل ينحاز إلى العدالة وصيانة المصلحة العامة ومصالح الأغلبية في الدولة الحديثة إلى إيجاد أداة تتوفر على قدر كبير من الاستقلال والحياد وذلك من ناحية النصوص التي تنظمها والتقاليد والأعراف التي تحكمها والتكوين والامتيازات التي يتمتع بهما من يجسدها من الموظفين لترفع إليها مختلف النزاعات المشار إليها أعلاه قبل استفحالها بشكل يتجسد في المساس الخطير بمصالح الأغلبية التي يمكن أن يؤدي التلاعب بها إلى سعيها إلى قلب الطاولة على الأقلية بشكل يمكن أن يهدد الاستقرار أو ينسفه وهذه الأداة في المجتمعات الحديثة هي السلطة القضائية التي تنتهي عندها الصراعات بأحكام وقرارات تصدر عبر إجراءات معينة تؤمن أمورا متعددة منها الشفافية والمساواة أمام القانون وتعزيز مصداقية الهيئة التي تصدر عنها وبتلك القرارات يتمّ القضاء على الصراع بشكل تصان فيه الحريات الفردية والمصالح العامة وبالتالي يرضى الجميع أو غالبية المجتمع ليتجذر بذلك السلام والاستقرار الذي يعتبر بوتقة التنمية ... لكنّ الوظيفة السابقة لا يمكن أن تقوم بها السلطة القضائية إلا إذا تحققت أمور منها:
- استقلالها ذلك أنّ هذه الوظائف المهمة والخطيرة في آن واحد لا يمكن أن تقوم بها أيّ سلطة مهما كانت إلا إذا كانت مستقلة ( كلمة رئيس محكمة النقض الفرنسية Bertrand Louvel التي تقدم بها بمناسبة الجلسة الأولى لمحكمة النقض بتاريخ: 14 يناير 2016 ) بل إنّه لزرع مزيد من المصداقية في عملها يجب أن يكون استقلالها واضحا وملموسا بشكل لا تخطئه العين بالنسبة للجميع وعلى كلّ المستويات لذلك نصت المادة: 2 من مدونة أخلاقيات القاضي في موريتانيا على أنّه: ( لا يمكن الاستغناء عن استقلالية القضاء لتأدية عدالة حيادية.
يجب على القاضي احترام استقلالية القضاء وتشجيع تطبيق إجراءات وضمانات من شأنها الحفاظ على هذه الاستقلالية وتنميتها )
- إظهار السلطة القضائية لجدارتها بممارستها لوظائفها انطلاقا من قدرتها على القيام بهذه الوظائف والدفاع عن هذه القدرة وهذا ما دفع إلى النص في المادة: 4 من مدونة أخلاقيات القاضي في موريتانيا على أنّه يجب على القاضي أن يدافع عن استقلاله وأن يتصدى لكلّ الضغوط التي قد تؤدي إلى التأثير على قراراته أيّا كان مصدرها
- منح هذه السلطة أي السلطة القضائية من الموارد البشرية والمالية ما يسمح بتحقيق أمور منها:
* ممارسة وظائفها وتكوين أفرادها بشكل مستمر وفعّال على أداء دورها الهام والخطير على أكمل وجه
* جعل أفراد السلطة القضائية في وضع مادي مريح على الأقلّ مقارنة بنظرائهم من الموظفين السامين في القطاعات الأخرى ) مقتطف من مقال سابق
وقبل هذا وبعده لا بدّ أن تعبّر جميع السلطات عن احترامها للسلطة القضائية ليس انطلاقا من أنّ النصوص القانونية تفرض عليها ذلك فحسب بل لأنّ العمل على إشاعة احترام السلطة القضائية والاستجابة لمختلف قراراتها ضرورة ملحة يمليها واجب العمل على صيانة استقرار البلد الذي يوجد منذ زمن على كفّ عفريت كما يورث المتحلي به الجدارة بالاحترام
موجبه أنّه إن صح أنّ أحد المتهمين بالمساس بهيبة السلطة القضائية والاعتداء على أحد أعوانها داخل مكتب أحد القضاة وبحضرته تمّ تعيينه بعد صدور حكم ابتدائي بالحبس في حقّه وإصدار بطاقة إيداع تنفيذا للحكم فإنّ صح هذا فانه يشكل امتدادا للممارسات التي كانت سائدة في البلد منذ زمن والتي تستهدف في مجملها إضعاف السلطة القضائية والمساس بمصداقيتها ... والتقليل من أهميتها في أعين المتقاضين من المواطنين والأجانب والجماهير بصفة عامة
وعليه فإنّه يجب إن صحّ خبر التعيين اتخاذ الخطوات التالية:
ـ إقالة من حصل منه التعيين لأنّه في بلد يسعى إلى أن تكون الممارسة فيه سعيا إلى تكريس قيم الجمهورية والتعبير عن التشبث بها تكون هذه الإقالة هي أقلّ عقوبة يمكن أن تتخذ في حقّ سلطة التعين هذه
ـ على السلطة القضائية ممثلة بنادي القضاة أن تعمل على متابعة كلّ من عمل على المساس بهيبتها
في الأخير أشير إلى أنّ السيد رئيس الجمهورية هو الضامن لاستقلال وبالتالي هيبته ومجابهة كلّ الأمور التي تمس بهذه الهيبة والاستقلال وأنّ انتهاك المبادئ الدستورية إن أدّت إلى إهمال العمل على المحافظة على الصالح العام يمكن أن تكيف بأنّها خيانة عظمى
Dmitri Georges Lavroff le système politique français Dalloz 1975 p. 414
كما أشير إلى أنّه تطبيقا لما جاء في الفقرة الثانية من المادة: 4 من الأمر القانوني رقم: 2007/ 025 المنشورة في عدد الجريدة الرسمية رقم: 1144 المتضمنة مدونة أخلاقيات الموظفين والوكلاء العموميين يجب على الإدارة أن تسهر على تنفيذ الأحكام والقرارات القضائية وأنّ عدم احترام السلطة القضائية في هذه الظرفية الخاصة من تاريخ البلد يكون على درجة عالية من الخطورة بالنسبة للدولة الموريتانية
القاضي محمدينج محمد محمود-رئيس محكمة الميناء