الآن في هذه اللحظة التي يخنقنا فيها الشعور بالغصة والألم، ويسبق فيها الدمع اي قول او عمل حزنا وأسى على فراق الوالدة والصديقة والقامة الإعلامية والثقافية والشخصية الوطنية التي ملكت حب وإعجاب كل الموريتانيين، نزيلة الجنان إن شاء الله الناها بنت سييدي، اجدني والحالة هذه عاجزة عن الاهتداء إلى كلمات تنبض ببعض ما أحس به تجاهها، لذلك سأكتفي بهذه المعلومات الدقيقة والموثقة منها هي عن جوانب من حياتها المهنية والإجتماعية خصتني بها اثناء الإعداد للنسخة الأولى من جائزتها التي نظمها اتحاد إعلاميات موريتانيا وكتبتها في ورقة تعريفية تحت عنوان "الناها رحلة عطاء على أمواج الأثير".
الناها بنت محمد الأمين ولد سيدي؛ أول صوت نسائيّ يقرأ نشرة الأخبار عبر أثير إذاعة الجمهورية الإسلامية الموريتانية؛ امتاز تقديمها بالعذوبة وسلامة اللغة ووضوح مخارج الحروف.
ولدت الناها عام (1946) في مدينة "أبي تلميت" حاضرة الثقافة والعلم وملتقى الطامحين للريادة والتميز من أبناء هذا الوطن، فنشأت وترعرعت في بيئة علمية محافظة، كان لها الأثر البالغ في تربيتها وتكوين شخصيتها الشغوفة بالمعرفة وحب الاطلاع.
حفظت القرآن الكريم في سن مبكرة ودرست كتبا فقهية وكونت رصيدا معرفيا جيدا بفعل جهود والدها الذي آثر دراسها في البيت على الرغم من ثقافته المزدوجة.
في ذلك الزمان كان صندوق العجب (الإذاعة) وسيلة الترفيه والتثقيف الأولى، وكان وقع عبارة "هنا نواكشوط" يذكي في النفوس روح الوطنية والانتماء.
فتعلقت الناها بأصوات عمالقة التقديم الإذاعي أمثال :(خي بابا شياخ، ومديحة المدفعي من هيئة الإذاعة البريطانية BBC) فولّد ذلك في نفسها حبا للمايكرفون.. ولم تكن في ذلك بدعا حيث ؛ يقال إن عشق المايكرفون ينشأ دائما من تكرار السماع لأصوات نرسم لأصحابها ملامح في المخيلة، فيكبر فينا حلم دخول عالم التقديم الإذاعي.
مطلع سبعينيات القرن الماضي، كانت الإذاعة الوطنية تزخر بنخبة من المذيعين المتميزين من بينهم شعراء وكتاب وأصحاب فكر؛ نذكر منهم محمد محمود ودادي، دحن حمود، كابر هاشم ناجى محمد لمام ، وكانت برامجهم تستقطب جمهورا غفيرا من المستمعين.
ولذلك لم يكن ولوج بوابة الإذاعة حينها سهلا؛ نظرا لقوة المنافسة.
رغم ذلك تقدمت "الناها" لمسابقة اختيار مذيعين أشرفت عليه لجنة رفيعة ضمت عضوية وزارات وطنية مختلفة، فكانت السيدة الوحيدة التي تقدمت للامتحان فوقع عليها الإجماع من طرف أعضاء اللجنة، حيث نجحت في اجتياز الصوت وسلامة مخارجه مع بعض الملاحظات التي اجتهدت الناها على معالجتها بالقراءة والتدريب المستمر.
وخلال مسيرتها المهنية تميزت بحرصها الشديد على إعداد نشرتها بإتقان ومهنية؛ فنالت إعجاب المستمعين الذين كانوا يعدون الدقائق والثواني لمتابعها بشغف وإعجاب كبير.
وحين أطل عهد الإعلام التلفزيوني بموريتانيا بداية الثمانينات؛ كانت "الناها" المذيعة الوحيدة المؤهلة للظهور على الشاشة، نظرا لخبرتها الطويلة في العمل الإذاعي وما يتطلبه من جودة التحرير والأداء والحضور؛ تلك الصفات المهنية مع كثيرة أخرى أهلتها لدخول القلوب والبيوت دون استئذان.
ارتبطت الناها بعلاقات طيبة مع مختلف الزملاء، وتشهد غرف الأخبار، واستديوهات البث على الأريحية والأخلاق العالية التي كانت تستقبل بها المنتسبين الجدد لمهنة المتاعب.
مارست العمل السياسي في ريعان الشباب، فكانت عضوا في أول حركة نسائية وطنية، كما انتخبت امينة إتحادية في المجلس الأعلى للنساء عام1977 وهو منصب عال وقتها.
كرمت الناها في القاهرة من طرف الزعيم جمال عبد الناصر و الرئيس لحبيب بورقيبة في تونس كما منحتها الشيخة فاطمة مبارك وساما رفيعا عام2003 في الإمارات العربية المتحدة.
والمفارقة العجيبة أنها وطوال مسيرتها المهنية العامرة بالعطاء، لم تحظ بتكريم وطني رسمي، وإن كان المستمعون قد منحوها أوسمة المحبة والتقدير.
• وسعيا من "اتحاد إعلاميات موريتانيا" إلى استلهام سيرتها ومسيرتها، نظم النسخة الأولى من جائزة الناها للإعلام وقضايا المرأة فى٢٠مارس الماضي، وتناولت الاعمال الفائزة فيها موضوعات تشغل بال المرأة الموريتانية وتسلط الضوء على واقع معاناتها في الكثير من القضايا المجتمعية، كما ولدت تنافسا مهنيا بين الجيل الصحفي الجديد.
رحم الله فقيدة الإعلام والأخلاق، والوطنية الصادقة، واسكنها فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقا والهم أهلها وزملاءها في الوسط الإعلامي ومحبيها الصبر الجميل وحسن العزاء.