مِن المسلَّم به أنّ وصول السيد الرئيس/ محمد ولد الشيخ الغزوانيّ لمَقاليد الحُكم، قد خلق مُناخا من التهدئة نالَ استحساننا جميعًا. ومع ذلك، فإنّنا قبل نهاية السنة الأولى من المأمورية، وجدنا أصواتا ترتفع مطالبةً بإجراء حوار وطنيّ، من أجل-حسَب زعم أصحاب هذه الأصوات-إخراج البلد من الأزمة السياسية التي يمر بها.
أمّا بالنسبة إلى أغلبية الآراء التي يُعرِب أصحابُها عن رضاهم-بصفة عامة- عن العمل السياسي للسلطة وعن الانعكاسات الإيجابية للبرامج الاجتماعية والتنموية، فإنهم يفضلون الحديث عن تشاور.
لقد تعهد الرئيس، في إطار سياسة الانفتاح التي ينتهجها، بأن التشاور سيكون شاملًا بحيث يتناول جميع القضايا دون قيد أو شرط.
لقد اختارت المعارضة أن تعود مرة أخرى إلى التلويح بالحوار الذي كانت دائما ترى فيه التِّرْياقَ الشافيَ من كل العِلَل !، فهل ستسيّر الحوار بمهارة، أم أنها سوف تعود إلى توجهاتها التقليدية المتطرفة، بل غير المنطقية في بعض الأحيان؟
نعتقد أنّ جميع الفاعلين السياسيين، يجب أن ينتهزوا هذه الفرصة من أجل التفكير بتعمق في أفضل الطرق والوسائل الكفيلة بإخراج البلد من التخلّف والهشاشة والتبعية الاقتصادية.
يجب أن يكون الاهتمام منصبًّا على هذا الموضوع المهم الذي يتوقف عليه كلُّ ما نصبو إليه من انعتاق ونجاح وسعادة.
إنه لممّا يَحُزُّ في النفس أن نجد آلافا من حاملِي الشهادات يتدافعون من أجل التنافس على عشرين وظيفةً مخصصة لمراقبِي رِياض الأطفال !
اقترحوا لنا إذنْ سياساتٍ قادرةً على إطلاق مشاريعَ كبرى زراعية أو صناعية، من شأنها أن تمتصّ البطالة وتخلُق الثروة.
قد تسمح المساعدات والإعانات الاجتماعية بمعالجة أوضاع ذات صبغة استعجالية، لكنها عبارة عن مهدئات لا يمكن أن تغني عن العلاج الحقيقيّ.
لا بد من العمل على إحداث مجالات عمل في كل مكان، في المدن وفي الأرياف، مع توجيه الجماهير نحو العمل والإنتاج.
يجب أن نتعلم ونستفيد من تجارب الدول التي عرفت كيف تتقدم. وبذلك وحدَه، نستطيع الخروج من سُباتنا ومن حالة الشك وعدم الثقة التي تخيّم على طبقات شعبنا؛ حيث ترى كل مجموعة أن المجموعة الأخرى هي المسؤولة عن كل المصائب ! ولعل هذا يشكل موضوعا توافقيًّا يمكن لكل واحد أن يقدم فيه أجودَ ما لديه من أفكار، دون أن يصطدم بمُحاوِرِيهِ أو يجرح مشاعرهم. وهناك طبعًا العديد من الموضوعات التي يمكن أن يتناولها الحوار.
أعتقد، على سبيل المثال، أنه يمكن النظر في طريقة تنظيم الانتخابات وفي الإجراءات اللازم اتخاذها من أجل ضمان الشفافية.
يجب أيضًا إزاحة العقبات التي تفرض على المترشحين الانتسابَ مؤقتًا إلى حزب من أجل التمتع بحقهم في الترشّح، مع أنهم قد اختاروا أن يترشحوا بصفتهم مستقلين.
ومع ذلك، فإنّ لديّ هاجسًا بأنّ المناقشات ستنتهي إلى الانحراف عن النهج المرسوم لها، وستسير على النهج المتبَع عادة، حيث يسود التحزُّب الطَّبَقيّ والاعتبارات الحزبية.
وهكذا، فإنه يُخشى أن تُطرَح من جديد الموضوعات القديمة عديمة الجدوى، ممّا سيعكّر الجو ويوقظ الشك والريبة وعدم الارتياح.
يُخشى عندئذ أن يتوقف الحوار فجأةُ بلا نتيجة. وفي الحقيقة، ما الجديد الذي يمكن أن ننتظره من القضايا القديمة المتعلقة بالإرث الإنسانيّ، واللغات الوطنية، والحالة المدنية، إلخ؟ سنشاهد، في أحسن الأحوال، ما يُطلَق عليه " حوارُ الطُّرْش"، حيث أصحاب القضايا-في مجابهة وتحدٍّ- يتقدمون من جديد بالحُجَج نفسِها الأبديّة المتناقضة.
إنّ الإرث الإنساني، عبارة عن ملف قديم استرعى-لمدة طويلة-اهتمام الرأي الوطنيّ والدوليّ، وقد وُجِد له حل- في نهاية الأمر- باتفاق جميع الأطراف المعنية. إنه حادث مُؤلِمٌ ، حادث مَسارٍ عَرَضيّ، على غرار ما يحدث في حياة جميع الأمم، يتم تجاوُزُه بفضل ما تتحلَّى به تلك الأمم من تسامُحٍ وسُموّ نفسٍ.
وقد يكون من المفيد، أن نذكّر بأنّ شهداء هذا الحادث ليسوا من جانب واحد، إذْ إنه إضافةً إلى الإرث الإنسانيّ المعترَف به، يُوجَد آخرُ قد أخفي ببساطة؛ توارى وأصبح نَسْيًا مَنسيا، بالنسبة إلى جزء كبير من الرأي العام.
بخصوص اللغات الوطنية، فهي تستحق الاعتراف والتطوير. وفي موريتانيا، تَحْظى اللغات الوطنية بالتقدير والاعتبار والمعاملة، بالدرجة نفسِها التي تحظى بها في إفريقيا كلِّها.
ومع ذلك، فلا يجوز أن تصبح اللغاتُ الوطنية غطاءً يُتستَّر به، من أجل أن يظل البلد خاضعا لهيمنة لغة المستعمِر، بحُجة أنها تستخدم بصفتها لغة انفتاح.
ثم إنه يجب أن نستحضر أنّ درجة حضور اللغة العربية على المستوى الدوليّ، تفوق بكثير درجة حضور اللغة الفرنسية التي تراجعت في كل مكان-وحتى في فرنسا نفسِها-أمام اللغة الإنجليزية.
قضية الحالة المدنية-بوجه خاص- قضية حساسة جدا. لقد أصبحت موريتانيا، بحكم موقعها الجغرافيّ، ممرًّا للهجرة غير الشرعية المنطلقة من إفريقيا الغربية نحو أوروبا. وبالضرورة، فإنّ جميع المتخلفين في موريتانيا من المهاجرين غير الشرعيين الذين لم يتمكنوا من العبور إلى وجهتهم، يسعون إلى أن يُقيَّدوا في السجلات المدنية الموريتانية، بصفتهم مواطنين موريتانيين. ولا شك أنّ هذه الظاهرة، إذا لم يتم التصدي لها بحزم وصرامة، ستشكل خطرا كبيرا على مستقبل البلد.
إن التغاضي عن هذا التسرب المكتسح للمهاجرين، يُعَدُّ عملا انتحاريا. ومن ثَمّ، فإنه يتحتم على كل موريتاني أن يثبت شخصيته، عن طريق وثيقة مصدق عليها، وإقامة تعود إلى زمن بعيد، ونسيج من علاقات اجتماعية يمكن التحقق من صحتها.
وفي الوقت الذي تبني فيه الأمم العظمى، من أوروبا ومن العالم، أسوارا لتحمي نفسها من تدفق المهاجرين، فإننا نستغرب الغضب الذي يعبر عنه أحيانا بعض رؤساء الأحزاب، منتقدين حكمة وتبصر أعوان الحالة المدنية !
كانت هذه ملاحظات مَصُوغة عشية الحوار الوطنيّ؛ فالحدَث يفرض نفسَه علينا جميعا، بحيث لا يترك أيَّ شخص غيرَ مُبالٍ.
حرر في 24 سبتمر 2021م