الموظف العمومي الموريتاني: الواقع و الآمال.

 

موريتانيا من بين البلدان التي تأتي في ذيل مؤشر التنمية البشرية، حسب التقارير الدولية المنشورة، ولعل جملة أسباب كانت وراء ذلك وفي مقدمتها إهمال التعليم، وضياع العدالة، و فشل السياسات التنموية المعتمدة، و ضعف الإنتاجية و التخلف، ... كل هذه الكوارث نتيجة طبيعية لإهمال الموظف العمومي، و عدم الاستثمار فيه. 

واقع الموظف العمومي في بلادنا:

بعد أن أورثنا المستعمر إحترام الدولة و إحترام الموظف العمومي، و كان المثل الأعلى لدى جميع طبقات المجتمع، بسبب تعلقه بالمُثل العليا من إحترام المال العام، و الإحساس بالمسؤولية، و السهر على تنفيذ برامج الدولة بكل مهنية و إقتدار، و بسبب الوضعية المعيشية المريحة التي يضمنها له راتبه. 
ظل الموظف العمومي على هذا الحال إلى غاية الثمانينات، و مع التوقيع على إتفاقيات البنك الدولي، والتي من شروطها وقف الإكتتاب إلا في قطاعات الأمن و التعليم و الصحة، بدأت معاناة موظفي القطاع العام، مع أعتماد أسلوب إعارة الموظف العمومي، من قطاعه إلى قطاعات أخرى لم يُكَوٌن على أساسها، و فتح المجال على مصراعيه لعدم إحترام التخصص و المؤهًل والخبرة، فتولى عدد كبير من الأطر الغير مؤهلين قيادة قطاعات و مؤسسات حيوية، على أساس القبلية و الزبونية، مما ساهم في تراجع الإنتاجية. و ضعف الخدمات المقدمة، و زاد من تفاقم هذه الوضعية عدم مراجعة رواتب و علاوات الموظفين العموميين، لتتناسب مع الزيادات في معدلات التضخم و التخفيضات الحاصلة على قيمة الأوقية، بموجب الاتفاقيات المبرمة مع صندوق النقد الدولي. و كانت الكارثة الكبرى، والتي قضت و بشكل نهائي على أهمية و طموح الموظف العمومي، هي إستراتجية التعينات من خارج الوظيفة العمومية، ليتربع على رأس القطاع أو المؤسسة العمومية من لا صلة لهم بالوظيفة العمومية، و يُسيًروا وكلاء وموظفي القطاع العام دون عقد عمل ملزم لهم، و دون كفاءة و دون تجربة و دراية إدارية. و برواتب أكبر من نظرائهم المقيدين في سجلات الوظيفة العمومية، أسلوب التعيين من خارج سلك الوظيفة العمومية، كان بمثابة رصاصة الرحمة على الوظيفة العمومية، وعلى موظفيها، فلا قوانين ولا ضوابط و لا معايير، بقيت للموظف العمومي على أساسها يمكن له الترقي في المناصب، و لم يعد من سبيل أمامه للتدرج في الوظائف القيادية، إلا أساليب التملق والنفاق و الكذب و الرشوة و القبيلة و الفئوية و الجهوية. 
و بهذا ضاعت الوظيفة العمومية و بضياعها، إنهارت كل الخدمات المقدمة من الدولة لمواطينها، فلا إستثناء لإدارة و لا لمؤسسة الكل في حالة من الإندثار و الضياع، حتى بدت بعض المؤسسات كخريطة قبلية أو جهوية. 

الموظف العمومي الطموح و الآمال:

حلم الموظف العمومي اليوم، يتجسد في وضع خطة وطنية طموحة، لإنتشاله من واقع الضياع الذي يعيشه، أساسها العدل في إكتتاب الموظفين، و إحترام جميع حقوقهم، و وضعهم في ظروف تضمن لهم حق العيش الكريم، أثناء الخدمة، و بعد التقاعد. 

1- الإكتتاب للوظيفة العمومية:

يطمح الطالب للوظيفة العمومية أن يُعهد موضوع الإكتتاب في سجلات الوظيفة العمومية، إلى وكالة وطنية، يتم إستحداثها، و إعطاؤها ما تستحق من أهمية، و إسناد إليها ملف إختيار الطاقم الذي سيتولى جميع مهام الدولة، و تسهر هذه الوكالة على وضع معايير واضحة للإكتتاب المطلوب، و على تساوي الفرص أمام المترشحين و إحترام النتائج الحقيقية، ومن المناسب أن يكون لدى الوكالة الوطنية للإكتتاب، برنامج معلوماتية يتولى فرز النتائج بنسبة أكثر من 80% ، و لا دخل للإنسان في التصحيح و الفرز النهائي للنتائج، إلا في حدود 10% إلى 20%. من أجل ضمان نزاهة المسابقة، مما يُمَكًنُ الوظيفة العمومية من الحصول على الأشخاص الأكفاء، القادرين على القيام بالواجبات المنوطة بهم؛

2- ضمان الحقوق و تقديس الوظيفة:

بعد الولوج إلى الوظيفة العمومية، تترتب حقوق للموظف العمومي، يتمنى لو تم إحترامها و السهر على تنفيذها، مثل حق التكوين و التدريب المستمر، و إحترام التراتبية الوظيفية، و احترام الترقي في المناصب، و القضاء على التعينات العشوائية، و التعينات في الوظائف من خارج سلك الوظيفة العمومية، و مراجعة الرواتب على الأقل كل ثلاث سنوات، حتى تستوعب الإرتفاعات المتتالية للأسعار و إستحداث تحفيزات مادية و معنوية على مستوى كل قطاع حكومي وعلى المستوى الوطني لصالح أفضل موظف عمومي، و تغطية التأمين الصحي لكافة الأمراض.
بتحقيق هذا الحلم، بلا شك، سيقدس الموظف العمومي وظيفته، و يعمل بأقصى جهد من أجل أن لا يفقد منصبه، و سينظر إليه المجتمع بكل إحترام و فخر، لأن الخدمة المقدمة جيدة، و لأن الموظف العمومي قادر على التمتع بحياة كريمة، يشاهدها الجميع؛

3- الموظف العمومي و أمل المعاش المناسب:

من أسباب فشل موظفي القطاع العام، واقع التقاعد، و يأملون أن تعمد الحكومة إلى مراجعة جذرية لرواتب المتقاعدين، تُمكن الموظف العمومي من مواصلة حياته بصورة كريمة ، فمن المناسب أن يُساعد ب20% من راتبه الكلي و تعطى له نقدا يوم إحالته للتقاعد، و تُتْرَكُ له 80% من راتبه الإجمالي كمرتب دائم، بالإضافة إلى إستحداث تراخيص تجارية و خدمية، تُمنح للمتميزين خلال مسيرتهم الوظيفية، بعد التقاعد.

المرحلة تتطلب وضع إستراتجية وطنية على جناح السرعة، تتضمن سن قوانين و مراسيم و مقررات و لوائح تنظيمية، تضمن تحقيق النقاط السابقة ، وتلبي كل طموحات الموظف العمومي، و تعيد له الثقة و المكانة المناسبة بين أفراد الشعب، لأنه هو من يقع على عاتقه النهوض بالبلاد، و هو الضامن لوجود الدولة. و على القائمين على الشأن العام أن يدركوا أن الثابت في معادلة التنمية و الرفاه، هو الإنسان، و المتغير في هذه المعادلة، الذي أحدث الفارق الصارخ بيننا و الدول المتقدمة، هو متغير الظروف المحيطة بالموظف العمومي.

و الله من وراء القصد.

د محمد الأمين شريف أحمد.

أحد, 10/10/2021 - 12:57