قال السيد رئيس الجمهورية في أول مجلس أعلى للقضاء يترأسه إذا لم يصلح القضاء قلن يصلح شيء وقال في خطابه في مدينة كيهيدي أنّ القضاء ... يجب ألاّ يعطل زراعة الأراضي الفلاحية ونصّت المادة: 105 من المرسوم رقم: 80/ 2010 على أنّه: (في حالة ما إذا كانت الأرض موضوع النزاع قد عرفت بداية استغلال متثبت منه ... فإن الطرف الذي قام بالاستغلال يحتفظ بالأرض ... ريثما يتمّ التوصل إلى حلّ) وبتطبيق هذه المادة يمكن أن يزرع الأرض من كان يزرعها من المتداعين فيها على أن تقدر لها أجرة تحجز تحت يد كتابة الضبط وعند خسارته للنزاع تدفع للطرف الذي كسب القضية وهذا ما كانت تقوم به المحاكم التي كنت أعمل بها خاصة الغرفة المدنية بمحكمة استئناف ألاك
لكن ما يجب أن يؤكد للسيد رئيس الجمهورية هو أنّ قضاء البلد يحتاج إلى تكوين مكثف وشامل في مختلف مجالات القانون خاصة المجال العقاري الذي لم يتفق فيه قضاة موريتانيا حتى كتابة هذه الأسطر على أيّ مسألة تقريبا ويتضح ذلك ممّا يلي:
1ـ عدم الاتفاق على تكييف علاقة الممنوح له منحا مؤقتا بالأرض الممنوحة له: رغم مرور ما يناهز 39 سنة على صدور الأمر القانوني رقم: 83/ 127 ومرسوم تطبيقه الأول رقم: 009/ 84 لا يزال تكييف علاقة الممنوح له منحا مؤقتا بالأرض الممنوحة له محلّ جدل بين القضاة في موريتانيا فمنهم من يعتبر المنح المؤقت مجرد سند يسمح بحيازة محلّه حيازة مشروعة وعندما ترفع أمامه دعوى استحقاق بشأنه يحكم للمحكوم لصالحه بصحة حيازته له كما هو الحال في القرار رقم: 49/ 2011 الصادر عن الغرفة المدنية الثانية باستئنافية نواكشوط بتاريخ: 06/ 04/ 2011 والحكم رقم: 31/ 2013 الصادر عن محكمة مقاطعة تمبدغة بتاريخ: 24/ 06/ 2013 ويمكن أن يكون ما قاد لهذا الفهم هو عدم جودة التكوين وذلك لكونه مشوبا بعيوب متعددة منها:
اـ أنّه يتضمن تحريفا للدعوى على معنى الفقرة الرابعة من المادة: 2 من ق إ م ت إ التي جاء فيها: (تبتّ المحكمة في حدود طلبات الأطراف ولا يمكنها من تلقاء نفسها أن تعدل موضوع أو سبب الدعوى) وقرار الغرف المجمعة رقم: 17/ 2016 الصادر بتاريخ: 22/ 06/ 2016 (منشور في مجلة المحكمة العليا عدد: 2016) ذلك أنّ المطلوب هو الحكم بالملكية وليس الحيازة
ب ـ أنّه يتضمن الحكم بما لم يطلب وهذا أيضا مخالف للفقرة الرابعة من المادة: 2 من ق إ م ت إ وقرار الغرف المجمعة رقم: 17/ 2016 الصادر بتاريخ: 22/ 06/ 2016 المشار إليه آنفا الذي جاء فيه: (تجاوز حدود طلبات الأطراف يعتبر تحريفا للوقائع وتجاوزا للسلطة)
ج ـ أنّه لا يرتب على الألفاظ معانيها ذلك أنّ المترتب على المنح ما لم ينصّ على خلاف ذلك صراحة هو ملك محلّه وعند تفسير النصّ يجب أن يكون ذلك في الاتجاه الذي يعزّز الاحتفاظ للأشخاص بحقوقهم التي اكتسبوا وليس العكس ذلك أنّ المشرع لم ينصّ على أنّ الدولة تحتفظ بملكية الأرض والأصل عدم احتفاظ المانح بملكية ما منح
د ـ أنّه لا يأخذ بعين الاعتبار تفريق النصوص القانونية بين أنواع الاقطاع الذي يشي مضمونها بتمييزها في إطاره بين:
ـ الاقطاع الريفي الذي نصّت المادة: 78 من المرسوم رقم: 80/ 2010 أنّ الأرض موضعه تظل ملكا للدولة ما لم يتمّ اقطاعها نهائيا ولا يمكن أن تكون موضوع رهن أو وقف كما نصت المادة: 75 من ذات المرسوم على أنّه: (يكون باطلا بقوة القانون اقتناء اقطاع ريفي مؤقت شراء أو هبة أو مبادلة إذا لم يكن مرخصا له سلفا من السلطة المانحة ...) بل نصّت المادة: 74 من المرسوم على أنّه لا يمنح للوارث إلا بعد التزامه بالوفاء بالشروط التي تعهد بها الموّرث
ـ الاقطاع الحضري الذي يتضح من وثائق المنح المتعلقة به أنّه يكون به الملك ذلك أنّ طلبه تستتبعه رسالة منح من الإدارة وتتضمن عادة وجوب دفع ثمنه في فترة معينة كما أنّ المادة: 132 من المرسوم رقم: 80/ 2010 نصّت على أنّها أعني الاقطاعات الممنوحة في المناطق السكنية أو التجارية أو المخصصة للصناعة التقليدية تكون شخصية ويجوز بيعها وهبتها وتحويلها شريطة حصول ذلك عبر توثيق ممّا يعني أنّها بمجرد المنح المؤقت تكون ملكا للممنوحة له ملكية مؤقتة ذلك أنّه لا يجوز للشخص بيع ما لا يملك عادة هذا مع أنّه يستنتج من مختلف المواد المتعلقة بالمنح الحضري والمادتين: 12 و 13 من ق ع وقرار الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا رقم: 64/ 2015 الصادر عنها بتاريخ: 11/ 07/ 2015 الذي جاء فيه أنّه لا يجوز إلغاء المنح إلا لدواعي المصلحة العامة أنّ المستفيد من الاقطاع الحضري متى قام بالاستثمار فلا يمكن للإدارة أن تمتنع عن منح محلّه له منحا نهائيا ويمكن أن يستنتج ممّا سبق أنّ الاقطاع الحضري يملك به المستفيد منه محلّه على معنى المادة: 8 من م ح ع التي تعرف حقّ الملكية بأنّه: (الحقّ الحصري الذي يخول صاحبه وبشكل مستمر استعمال واستغلال والتصرف في الأشياء والحقوق ... مع مراعاة القوانين التي تنظمها)
ممّا يعني أنّ الدعوى فيه يمكن أن تكون دعوى استحقاق منصبة على نزاع في ملكيته كما يمكن أن تكون دعوى حيازة وذلك بحسب الحالات على خلاف الاقطاع الريفي الذي يظل ملكا للدولة بمقتضى المادة: 78 من المرسوم رقم: 80/ 2010 آنفة الذكر إلى أن يتم منح الأرض محلّه منحا نهائيا وهذا ما يفهم من قرار الغرف المجمعة رقم: 18/ 2007 وقرار الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا رقم: 64/ 2015 المشار إليه آنفا وسيتم تناول القرارين لاحقا بشكل أكثر تفصيلا
2 ـ تعارض مواقف القضاة من الحيازة: لم يكن القضاء الموريتاني يعير بالا للحيازة وذلك عائد هو الآخر من وجهة نظري لعدم جودة التكوين لكن بدأت المحاكم حسب علمي المتواضع جدّا ترجح بالحيازة ابتداء من القرارات الصادرة عن الغرفة المدنية الثانية بمحكمة الاستئناف بنواكشوط ئ أيام ترؤس القاضي أحمد محمود آبّه لها سنة: 2011 وواصلت ذات التوجه في السنوات التالية تحت رئاسة القاضي محمد الغيث عمار حسب ما تشي به قراراتها وذلك مثل القرار رقم: 93/ 2012 الصادر عنها بتاريخ: 06/ 06/ 2012 وقرارها رقم: 17/ 2012 الصادر عنها بتاريخ: 04/ 04/ 2012 ومن أمثلة الأحكام الابتدائية التي عملت بهذا التوجه الحكم رقم: 61/ 2013 الصادر عن محكمة مقاطعة عرفات بتاريخ: 01/ 07/ 2013 والحكم رقم: 31/ 2013 الصادر محكمة مقاطعة تمبدغة بتاريخ: 24/ 06/ 2013 والحكم رقم: 072/ 2021 الصادر عن محكمة مقاطعة الميناء بتاريخ: 26/ 08/ 2021 ويشار إلى أنّ هذا المذهب يؤيده ما يلي:
ـ مفهوم المخالفة للمادة: 12 من ق ع التي جاء فيها: (إن أي فرد يرغب في الحصول على ملك أراض للدولة، يجب بالضرورة أن يحصل مسبقا على رخصة لذلك، وهذه الرخصة لن تصبح نهائية ولن تقضي بتحويل الملكية إلا بعد استثمار تلك الأرض طبقا للشروط المفروضة في التسجيلات العقارية أو التي تحددها مواصفات الرخصة.) ممّا يعني أنّ الممنوح له متى استثمر محلّ النزاع ملكه وبالتالي يجب عند تعدد المنح أن يحكم للحائز بالاستثمار والسكن وهذا ما يشي بوجوب اعتماده قرار الغرف المجمعة رقم: 08/ 2021 المشار إليه أعلاه وقرار الغرفة المدنية والاجتماعية الثانية بالمحكمة العليا رقم: 58/ 2013 الصادر عنها بتاريخ: 13/ 06/ 2013 في إطار تفسيرها للحيازة التي تتناول المادة: 464 من ق ا ع المنوه به آنفا
ـ المادة: 105 من المرسوم رقم: 80/ 2010 التي جاء فيها: (في حالة ما إذا كانت الأرض موضوع النزاع قد عرفت بداية استغلال متثبت منه ... فإن الطرف الذي قام بالاستغلال يحتفظ بالأرض ... ريثما يتمّ التوصل إلى حلّ) فهذه رجّحت جانب المستثمر الحائز
ـ مفهوم المخالفة للمادة: 106 من المرسوم رقم: 80/ 2010 التي جاء فيها: (لا تراعى قيمة المصاريف المستثمرة في الأراضي أثناء فترة عرض النزاع بشأنها على الهيئات التحكيمية أو القضائية ...) ممّا يعني أنّ الاستثمار الواقع بحسن نية وقبل نشوب النزاع يراعى ومن مراعاته الترجيح به خاصة أنّ حسن النية ليس شيئا سوى حيازة حقّ دون إدراك أنّ تلك الحيازة تشكل اعتداء على حقّ شخص آخر ما لم يكن عدم الإدراك ناشئا عن خطإ جسيم حسب المفهوم من المادة: 965 من القانون المدني المصري عبد الرزاق السنهوري م ـ س ج 9 المجلد 2 ص 861 هذا بالإضافة إلى أنّ حسن النية مفترض حتى يثبت عكسه تطبيقا للفقرة الأخيرة من المادة: 16 مكررة من ق ا ع ومثيلتها من المادة: 3 من ق إ م ت إ
ـ المادة: 464 من ق ا ع التي جاء فيها: (عندما يكون كلّ من الطرفين حسن النية يرجح جانب الحائز إذا كان حسن النية وقت اكتسابه الحيازة ولو كان سنده لاحقا في التاريخ) ذلك أنّ القضاء درج على اعتبار وثائق المنح مجرد سندات ملكية أو حيازة لمحلّها على النحو المفهوم من القرار رقم: 18/ 2007 الصادر عن الغرف المجمعة بالمحكمة العليا بتاريخ: 26/ 10/ 2007 الذي جاء فيه أنّ وثائق المنح المؤقت للقطع وثائق رسمية تختص المحاكم المدنية بالبتّ في النزاعات التي تنشأ بين خصوصيين بسببها
ـ ما درج عليه الاجتهاد القضائي الأجنبي من الترجيح بالحيازة وتقديمها على قدم التاريخ وتبني هذا المذهب من طرف الفقه خاصة الفقيه عبد الرزاق السنهوري حيث يقول: (الأولى في إثبات حقّ الملكية أن نقف في بادئ الأمر عند الحيازة فإذا استوفت هذه الحيازة شرائطها القانونية كان الحائز هو المالك ما لم يدحض خصمه قرينة الحيازة بقرينة أقوى منها) عبد الرزاق السنهوري م ـ س ج 8 ص 615 والصفحات السابقة لهذه الصفحة خاصة: 610 و 611 حيث يقول: ( أن تكون حيازة المدعى عليه محققة مستوفية لشرائطها وتقضي المحكمة في هذه الحالة لصالح المدعى عليه وترفض دعوى الاستحقاق لأنّ كلاّ من الخصمين قدم سندا يعادل السند الذي قدمه الخصم الآخر فيتهاتر السندان ويبقى المدعى عليه راجحا بحيازته ) وفي الحالة التي نتناول هنا يكون لكل من الطرفين سند على مفهوم قرار الغرف المجمعة بالمحكمة العليا رقم: 18/ 2007 الصادر بتاريخ: 26/ 10/ 2007 فيترجح جانب الحائز بحيازته المتمثلة في الاستثمار والسكن وهذا هو مضمون قاعدة: (تعارض الحجتين موجب لسقوطهما وبقاء الشيء بيد حائزه) كما أنّه هو مشهور المذهب المالكي عند تساوي الحجتين فيما لم يعلم أصله مع يمين الحائز د/ محمد بادن م ـ س ص 393ـ 394
3ـ الأوراق التي يحاز أو يملك بها: لم يتفق القضاء في موريتانيا حتى الآن على الأوراق التي تصح بها الحيازة انطلاقا من احكامه خاصة قرارات الغرف المجمعة حيث ذهبت في قرارها رقم: 19/ 2012 الصادر عنها بتاريخ:12/ 12/ 2012 إلى أنّه: لا يمنع إصدار رخصة لأحد الأطراف في المنح المزدوج من إصدارها للطرف الآخر تقدم أو تأخر في التسديد وتأسيسا عليه لا يمكن أن يشكل تاريخ رخصة الحيازة الدليل الوحيد على أسبقية المنح في حد ذاته ممّا يعني أنّها كانت تذهب إلى أنّ رسالة المنح يثبت عن طريقها المنح وبالتالي تكون الحيازة بها مشروعة بينما تراجعت عن هذا المذهب في فقرارها رقم: 38/ 2014 الصادر عنها بتاريخ: 15/ 07/ 2014 إلى أنّ: ( ما قبل رخصة الحيازة هو من الإجراءات التمهيدية للمنح) ممّا يعني أنّه لا يتحقق به المنح حسب زعمها هذا مع الإشار إلى أنّ رخصة الشغل (الحيازة) لا تعني المنح انطلاقا ممّا تشير إليه الألفاظ وإنّما تعني إذن الإدارة للمستفيد منها بشغل أرض معينة ويمكن أن يستتبعها المنح أو طلب الإدارة التي أذنت بشغل الأرض إخلاءها ذلك أنّ رسالة المنح هي وحدها الدالة على المنح كما أنّ القانون يفترض أنّها أعني رسالة المنح صدرت كردّ على طلب تقدم به المستفيد تطبيقا للمواد: 12 من ق ع و 127 و137 من المرسوم رقم: 80/ 2010 المطبق للقانون العقاري بالنسبة للاقتطاعات في الأماكن الحضرية وتتضمن رسالة المنح عادة وجوب دفع ثمن الأرض خلال مدة تعينها وبالتالي فهي التي بها يقترن إيجاب الطالب بقبول الجهة المانحة ويكون بذلك من غير المفهوم بالنسبة لي على الأقلّ مذهب الغرف المجمعة في فقرارها رقم: 38/ 2014 الصادر عنها بتاريخ: 15/ 07/ 2014 كما يجب التنبيه هنا إلى أنّ الإدارة وهي جهة المنح ذهبت إلى أنّ جميع الوثائق تصح بها الحيازة وفي حالة تعدد المنح (تعطى الأولوية للأشخاص الذين بحوزتهم بطاقات ترحيل أو أوصال حتى ولو كان الطرف الآخر يتوفر على رخصة) حسب التعميم رقم: 01506 الصادر عن والي نواكشوط بتاريخ: 07/ 05/ 2003 وقريب منه محضر اجتماع اللجنة الوزارية المنعقدة بتاريخ: 17/11/ 1992 تحت رئاسة وزير الداخلية وبعضوية وزير المالية
لكي يقوم القضاء بدوره في حماية الحريات الفردية والعامة ويمارس وظائفه الدستورية بشكل ينزع إلى تحقيق الاستخدام الشامل لمختلف الموارد ووسائل الإنتاج لا بدّ من أن يتمّ العمل على استقلاله وفرض احترامه والعمل على تكوينه بشكل جيد ذلك أنّه لضعف تكويني صدرت عنّي بعض الأحكام التي سردت عيوبها أعلاه
مقتطف من هوامش مداخلة قدمتها في ندوة العقارات المنظمة من طرف إدارة المصادر البشرية بوزارة العدل
أهم المراجع:
ـ د/ عبد الرزاق السنهوري الوسيط في شرح القانون المدني مراجعة د/ عبد الباسط جميعي ود/ مصطفى محمد الفقي منشورات الحلبي الحقوقية بيروت ـ لبنان 1998 ط 13
ـ د/ محمد بادن دعوى الاستحقاق العقارية على ضوء الفقه المالكي والتشريع المغربي والعمل القضائي دار القلم الرباط المملكة المغربية الطبعة الأولى