نقاط حول المقال
توضيحات حول الأساس القانوني لتعميم وزارة المالية المتعلق بتنقيح ومراقبة كتلة الأجور
طالعت مقالا يتناول االأساس القانوني لتعميم وزارة المالية المتعلق بتنقيح ومراقبة كتلة الأجور،وخاصة تأكيد الحضور الفعلي للقضاة من خلال وزارة المالية ، معتبرا انه لا يشكل مساساً بمبدإ الفصل بين السلطاتِ، والنظام الأساسي للقضاء.
ولقد نال اعجابي تمهيد صاحب المقال الذى ذكر فيه ان الهدف الأساسي منه، هو "إزالة اللبس عن اختلاف دلالات المبادئ القانونية باختلافِ الميادين والحقول"
الشيء الذي جذبني لقراءته حتي إفهم الخلفية التأسيسية له.
وقد قرأت باهتمام المقال ،مسترسلًا مع فقراته يحدوني يقين ان صاحبه ،كإطار قانوني وفني مالي ، لن يهمل التأكيد على ضرورة الايفاء بمتطلبين هامين:
اولهما:الحرص على التأكد الفعلي لمردودية صرف الراتب ، الذي يتعامل معه كوجه إنفاق مالي للدولة منوط به الحفاظ عليه والتأكد من صرفه فى الوجه المقرر.
والثاني: إنسجام ذلك مع ضمانات سير المؤسسات والاجهزة المختلفة للدولة، كل فيما يخصها بانضباط ومسؤولية، خاصة الاجسام الوظيفية، التي ميزها الدستور، وأفردت لنا قوانين نظامية خاصة، ضمانا لاستقلاليتها، وحفاظا على احترام فصلها من حيث الشكل الرقابي عن بعض الفئات الوظيفية التي لا تناط بها نفس المسؤوليات.
بيد اني واسترسالا مع المقال اصطدمت بمجموعة من المقدمات أو التأسيس القانوني فى نظري الفاقد للوضوح أو التعليل والذي أجمله فى النقاط التالية :
أولا: فيما يتعلّق بالتأسيس الشكلي للتعميم
ذكر المقال بأنّ التعميم مُوجهٌ حصرا إلى الوزراء ومسؤولي الهيئات العمومية. وذلك، يجدُ مُبرّره القانوني في أن رأس السلطة في الوزارة المُصدرة للتعميم، هو الوزير المُكلّف بالمالية، ،
وهو أمر صحيح ، غير أن مبدأ استقلالية القضاء ، حتم أن تكون مهمة الاشراف على التأكد من الحضور -حرصا على المال العامة وصرفه فى الوجه المقرر- من ناحية ، وضمانا لاستقلال القضاء وفصلا بين السلطات - بيد جهة أخري - مرتبطة بالسلطة التنفيذية (وزارة العدل) هي المفتشية العامة للإدارة القضائية والسجون ، عهد إليها بتولي تلك المهمة.
والهدف من ذلك أن يكون القاضي كمكلف بالقيام بادوار الفصل بين الجميع بما فيها السلطات ذاتها، بمنأي عن مباشرة أي ضغط مباشر اوغير مباشر عليه ،خصوصًا اذا تعلق الامر، باشهار ادعاءً تغيبه وتعليق راتبه ، من طرف الية تدقيق عادية، خصوصًا مع غياب الدقة فى بعض الحالات.
وبالتالي فمن حيث الشكل ، لا قانونية مطلقا لادراج التعميم لأسماء أعضاء من السلطة القضائية (القضاة) بهذا الشكل وهو يتعارض مع المبدأين المشار إليهما أعلاه: التحقق من صرف الراتب فى الوجه المقرر لتكليف جهة تنفيذية أخري به من خلال قانون نظامي منفصل، من جهة، وخرقا لمبدأ الفصل بين السلطات الذي يجب وضعه فى الاعتبار عند القيام بأي عمل يراد أن يكون منسجما مع دولة القانون من جهة اخرى.
ويبرز الخلط بين الاساس القانونيِ للتعميم أي المادة: 59 من القانون النظامي المتعلق بالمالية الموجه الى المتدخلين في عمليات تنفيذ النفقات(الوزراء بما فيهم وزير العدل ، ومسيري المؤسسات العمومية) والذي لا مشاحة فيه ، والخلط مع آلية الاشراف على ذلك بالنسبة لبعض الأجسام الوظيفة القضاة مثلا ، الذى يضبطهم نظام خاص للاعتبارات المبينة أعلاه، وهو ما عبر عنه رد السيد معالي وزير العدل بإحالة مَنْ مِنَ الموظفين يعني بالتعميم، وتوضيح آلية التحقق فيما يخص (القضاة) بوصفهم جسما وظيفيا مستقلًا بنظام عضوي خاص،
ولا يعني ذلك تنزيه القضاة وترك الباب مفتوحًا لهم لاي تقصير، أو التفريط فى المال العام ، وانما بالآلية القانونية التى ارتاها المشرع كضمانة لاستقلال السلطة القضائية .
وهنا يجدر الاشارة ان وزير العدل لحساسية مهامه يتمتع بما يسمي "القبعة المزدوجة " (double casquette من كونه جهة الإشراف التنفيذية على السلطة القضائية ، من ناحية، وحافظ الأختام المشرف على السياسة الجنائية و النيابة العامة (مع استشراف التعديلات الضامنة للاستقلالية) من ناحية أخرى.
وبالتالي مناط به آلية التحقق هذه احتراما لمبدأ الفصل بين السلطات، وهو ما ابرزه بصفة جلية رد معالى وزير العدل.
وعلى ضوء ذلك فان ايراد القضاة للاعتبارات السابقة هو نوع من التدخل فى تلك "القبعة" الخاصة، وان كان التعميم مجرّد مراسلة إدارية بين جهتين إدارتين منتميتينِ إلى سلطة واحدة هي السلطة التنفيذية،إلاٌ انه فى هذه النقطة مس بالسلطة القضائية.
ومادام بعض المعنيين بآلية التحقق هذه قضاة ، فإن لنادي القضاة، ان يتدخل، إذ القضاة ضمن المخاطبين بفحوى التعميم ، مع أن المخاطبة ب (إلى:..) أبرز فيها حافظ الاختام ما يلزم من ايراد من يعنيهم ذلك من الموظفين العمومين ، ومن إيراده مساسٌ بمبدأ الفصل بين السلطات.
فمراعاة الاشكال مهمة فى النظم الديموقراطية والدول التى تكرس احترام القانون ، وخاصة فى تعميمٌ إداريٌ كهذا ، ومع وجود آلية خاصة بالقضاة كفئة وظيفية خاصة تضمن التأكد من وجودهم الفعلي وضبط وشفافية تسيير كتلة رواتبهم وأجورهم، بصفة محترمة ودقيقة.
ثانيا: فيما يتعلّق بجهة الوصاية للتعميم
تطرق المقال الى ان القضاة يخضعون إلى ثلاثة أنواع من الوصاية منها ما سماه "الوصاية القضائية " موردا أنهم "بصفتهم لِسان التشريعِ الذي ينطق به،[ ] يخضعون للقانون فقط. (المادة 7 من النّظام الأساسي للقضاء)" .
ويجدر التوضيح أنها ليست رقابة بقدر ما هي ضمانة ،وفى هذه النقطة بالذات اجابة واضحة على ان الشكل والآلية التى يجب توافرها للقيام بالتحقق يببغي أن تلتزم بالقانون النظامي الضامن الوحيد للاستقلالية.
وفيما يتعلق بالإشراف الاداري اورد انهم " بصفتهم موظفين عموميين، يخضعون لسلطة وزير العدل (المادة 6 من النظام الأساسي للقضاء)" وهذا الإطلاق يجب الوقوف عنده لتبيان ان القاضي لا يمكن وصفه "موظفًا عموميا" اولا لكونه مكلفا بالقيام بمهام سلطة مستقلة.
ولعل ما يثير اللبس فى هذه النقطة ربما هو تعدد الاختصاص لوزير العدل الذي بيناه أعلاه والذي ابرزه النظام الاساسي للقضاء، كرئيس للنيابة العامة، وجهة اشراف عامة مرفقية.
أما من الناحية المالية وان كان صاحب المقال فضل وصف القضاة ب "أعباء مالية" بدل "أوجه صرف أو إنفاق" الذي درج عليه فى اطار المالية العامة ، فإنه يرجعنا الى التأكيد أن مراقبة وجه الصرف هذا ضبط لها المشرع ذلك الاطار الذي ذكرنا آنفا ضمانا للهدفين المذكورين أي التأكد من الانضباط وسلامة الصرف المالي، وإحترام مبدأ فصل السلطات.
إذن لا مناكرة فى خضوع جميع بنود صرف الميزانية ، لوصاية الوزير بالمُكلّف بالمالية ، لكن ألية التدقيق مقيدة فى نقطة تدقيق حضور القضاة وتعليق رواتبهم بما ذكرناه آنفا.
وخلاصة القول تبعا لما ذكرنا أعلاه :
1 أنه لا تعارض بين التدقيق فى وجه الصرف المقرر، التي هي اختصاص وزير المالية، كجهة تنفيذية ، واعطاءها لجهة تنفيذية أخرى عهدها المشرع بتولى تلك المهمة ، إحتراما لسير السلطات الواجب فيها مراعاة الاستقلالية، اذ أن السلطة التنفيذية ككتلة واحدة ستجني نفس النتيجة.
2. أن التلويح بتعليق راتب أي عضو من السلطتين المستقلتين التشريعية والقضائية ، دون الرجوع الى النظام العضوي لكلا السلطتين مس من استقلالهما من طرف السلطة التنفيذية، وهو ما حملته اللائحة المرتبطة بالتعميم بالنسبة للقضاة.
د. محمد عمي
قاض-محاضر فى القانون العمومي للأنشطة الاقتصادية- جامعة انواكشوط