نحاول في هذه الحلقة من معالجات ملف إيرا أن نتجاوز المرحلة الإجرائية لسير المحاكمة، لا استباقا للمآلات بل استشرافا لصورة الوضع الخارجي لحركة الملف من منظور الرؤية الرسمية، بمعزل عن مشمولات نظر المحكمة.
الملف حساس بدرجة تستدعي من الكاتب التسامي فوق الطرفية السلبية إلا بقدر ما يفرضه الحضور الإيجابي لمن يحمل صفة مواطن، بعيدا عن مشهد المحاكمة ومجريات القاعة وغيرها مما لا يهم سوى الصحافة والكتبة الذين يجترون قشور الخبر أو المحامين الذين لا يرون من حقيقة الملف أبعد من مسافتهم من (خشبة المرافعات) ..
الملف ليس قضائيا بالمفهوم التقليدي، لينشد فيه فقط محض تطبيق القانون كغاية مثلى، إنما هو شيء آخر تماما بمفهوم (الاعتبار النوعي) تراعى في مثله-سياسيا وأمنيا- مقاصد ذرائعية متغيرة في ضوء اشتراطات واعتبارات تستمد مرجعيتها من متغيرات السياسة لا من ثوابت القانون.
تلك هي منطلقات الإطار العام لتصور التداعيات المحتملة لقضية نوعية كهذه، لا محالة يصطبغ التعامل معها بطابع المرحلة.
هناك أمور لا تستشعرها الحواس المهنية لدى القضاء الذي يقول فيه أحد المفكرين السوريين "إنه جهاز من خصائصه الإصابة بعمى الألوان لا يرى إلا أبيض أو أسود فقط" إما الإدانة أو البراءة ليس إلا.. فراغ (عمى الألوان) لدى القضاء يملؤه "نور" الحاسة السادسة للإدارة السياسية عندما تقتضي مصلحتها أن تجعل من صناعة الحاضر ضمانات للوصول إلى مستقبل مؤتمن.
وتلك الحال، فما القانون إلا آلية قابلة للتطويع، على أن لا تؤول هذه القابلية بشرعنة تدخل السلطة السياسية في أعمال القضاء، لكن بضرورات ممارستها –في النهاية- لمهامها السيادية في توجيه المسارات.
فمنذ فترات ليست بالبعيدة وفي نوازل مماثلة اضطرت السلطة إلى احتواء الموقف بالإفراج عن رموز (إيرا) في عملية التفاف مقننة ومقوننة دون المساس بمبدإ الإدانة الذي أقره القضاء.
الدواعي والاقتضاءات اليوم أكثر وجاهة بسبب ما يلوح في الأفق من بوادر الصراعات على الجبهتين الداخلية والخارجية.
فعلى الصعيد الداخلي قد لا تغيب عن نظر النظام مستجدات الظرف وما لرمزية الحضور الزنجي لأول مرة في قضايا تتعلق بالحراطين بما يوحي به ذلك من تأسيس لوضع جديد (!!) في الوقت الذي يفكر فيه النظام- في سياق آخر- في إذكاء صراع داخلي من نوع مختلف بالتوسع في فتح ملفات الفساد، ولو على سبيل التهيئة الإعلامية والنفسية لتحريك ما يعرف بملفات المال العام ومحاكمة أصعابها المنفيين بعيدا منذ زمن طويل، تلك المحاكمة التي ستتشبث الدولة فيها بالمطالبة بالحكم لها على مواطنيها بعشرات المليارات، حتى ولو كلفها الأمر صراعا مفتوحا مع ثلثي شعبها من أجل ثلث ذلك المبلغ.
ولا شك أن النظام لا يعدم الوعي العميق بأن استدرار ملفات المال العام (تحت شعار محاربة الفساد وتوظيف ذلك الشعار في استجداء الدعم المالي الأجنبي) أكثر "بركة" من الاستمرار في صراع عقيم مع صعاليك لا يملكون من (الزاد) سوى المطالبة بالحرية والمساواة.
أما على الصعيد الخارجي فإن التوتر الحاصل في العلاقات مع الجارتين الجنوبية والشمالية وانعكاساته القابلية للتفاقم في الاتجاه الأسوأ يشكل مدعاة لتركيز الاهتمامات شطر متطلبات العمل على تماسك الجبهة الداخلية، خاصة في مواجهة التطورات الراجحة الحصول على الحدود الشمالية مع تزايد احتمالات اندلاع حرب بين المغرب والبوليساريو (في ظل وضع إقليمي سيئ) وما سيكون لذلك من تأثير على الأمن الحدودي والمنطقة الحرة والشريان الاقتصادي الرئيسي للبلد.. تلك متطلبات ينبغي أن تكون أولى من صراع مع الحراطين يمكن احتواؤه سدا للذريعة، أو ارتكابا لأخف الضررين.. تحسبا لصراع أكثر خطورة على الأمن والتنمية والسيادة.
وبحكم الاحتمالات المفتوحة لصراعات المستقبل وأثرها المفترض على تراتبية الأولويات في نظر النظام فإن ملف إيرا قد يتحول –بالضرورة- إلى قضية ثانوية تترك مكان الصدارة في الاهتمام لأولويات يفرضها المشهدان المحلي والإقليمي.
لكن هل سيكون النظام فعلا بهذا المستوى من (وعي الواقع)، ومن امتلاك القدرة على استشراف المخاضات الصعبة لصراعات المرحلة المقبلة؟؟