تركت آمنة بنت المختار صالونات المجتمع وغاصت في عالم الفقراء والمضطهدين. فاتُهِمت بالجنون والتمرّد، وأهدِر دمها وخرجت تظاهرات ضدّها. لكنها واصلت معركتها وعرفت السجن والتهميش والتعذيب الجسدي والنفسي.
- كيف دخلتِ ميدان حقوق الإنسان؟
أبصرتُ النور في خمسينيات القرن الماضي في أسرة عربيّة. ومنذ صغري وأنا أرفض السلوكيات القاسية وغير العادلة. كنت أساعد الفلاحين في عملهم ونما فيّ شعور مناهض للعبوديّة، لأنني ولدت في أسرة كانت تمارس العبوديّة على الرغم من أنها لم تكن تمارسها بقسوة. وكنت أرفض بشدّة سلوكيات مشينة في قريتي كالزواج المبكر والعنصريّة وسوء معاملة الخادمات. ومع مرور الوقت تحوّل هذا الرفض إلى قناعة. وعندما ظهرت حركة "الكادحين" (يساريّة) التي رفعت وقتها شعارات مناصرة للمرأة والوحدة ومكافحة الرق، انخرطت فيها ووزّعت منشورات وتعرّضت للاعتقال والضرب. ولأنني لم أكن قد بلغت سن الرشد، كانوا يطلقون سراحي بعد أيام.
وشكّل عام 1989 الذي شهد أحداثاً عرقيّة دامية بين موريتانيا والسنغال، نقطة تحوّل في حياتي. فتحوّلت إلى حقوقيّة، وأسّستُ منظمة لمؤازرة ضحايا القمع في موريتانيا هي "لجنة التضامن مع ضحايا القمع"، هدفها مساعدة ضحايا هذه الأحداث الذين كانوا يتعرّضون للتصفية الجسديّة ويتم إجلاؤهم عن أراضيهم. وتعرّضت للاعتقال مرات عدّة بسبب نشاطي وعانيت كثيراً من نظام الرئيس الأسبق معاوية ولد الطايع، لدرجة أني لجأت إلى استبدال اسمي الحقيقي وهو "آمنة بنت أعل" بـ"آمنة بنت المختار" الذي أصبح اليوم متداولاً. وفي عام 1999 أسست منظمة "رابطة النساء معيلات الأسر".
- تدافعين عن المرأة بجرأة في مجتمع تقليدي محافظ. ما هي العوائق التي تواجهك؟
العوائق كثيرة، ومنها العادات والتقاليد البالية التي تعتبر أن بعض الأنشطة والأعمال حكر على الرجل. ولكون المجتمع الموريتاني محافظاً، فإن نشاط المرأة فيه ينحصر في دورها في المنزل وتربية الأطفال ورفاهيّة الزوج. ولعلّ العائق الأكبر هو المتعلق بالقراءات الخاطئة للدين وانتشار الحركات التكفيريّة، بالإضافة إلى تمييع العمل الحقوقي من خلال خلق عشرات المنظمات، بعضها يعمل لصالح النظام. إلى ذلك، ينظر النظام الحالي إلى المجتمع المدني على أنه "معارضة" ويرفض تحديث القوانين التي لم تتغيّر منذ الاستقلال.
- أسّستِ جمعيّة تخطّت شهرتها حدود موريتانيا. كيف انطلقت الفكرة وكيف تطوّر هذا المشروع؟
بالفعل تمحور نشاط الجمعيّة في البداية حول حقوق معيلات الأسر ومكافحة أشكال العنف ضدّ المرأة والتمييز المبني على النوع، نظراً لما تعانيه من ظلم وانتهاك لحقوقها. لكن ومن خلال ما نسجله يومياً من مشاكل، رأينا أن النساء تُمارس بحقهنّ أشكال العنف المختلفة، بخاصة من قبل الأزواج. وهو ما أدّى بنا إلى بذل كل الجهد في سبيل مؤازرتهنّ وحمايتهنّ وتوعيتهنّ والوقوف مع كل مظلومة، غير مبالين بالاعتبارات الطائفيّة ولا العرقيّة ولا الجنسيّة ولا الفوارق الاجتماعيّة.
أما فكرة الجمعيّة، فتعود إلى ذلك اليوم عندما كنت أحضر جلسة إثبات نسب. المرأة المدّعية كانت قد تزوّجت عرفياً، ونتج عن الزواج المزعوم أطفال. فرفعت قضيّة إثبات نسب. وعندما لم ينصفها الحكم، توفيت على الفور في قاعة المحكمة وقد أصيبت بأزمة قلبيّة. هذه الحادثة تركت أثراً عميقاً في نفسي وزادتني قناعة بأن عدم الاهتمام بالمرأة والظلم الذي يمارَس بحقّها بالإضافة إلى التهميش في المجال السياسي والاقتصادي والفكري، هي وراء كل ما تعانيه. فقرّرتُ تأسيس "رابطة معيلات الأسر" من أجل مؤازرة النساء وتوجيههنّ والدفاع عن حقوقهنّ.
- ما هي أبرز المشاكل التي تعانيها المرأة الموريتانيّة؟
تواجه المرأة صنوفاً عديدة من الاستغلال والعنف والتهميش والتمييز. فمثلاً نسبة الطلاق هنا هي الأعلى عربياً وتصل إلى 42 %، وقد رفعت نسبة معيلات الأسر إلى 38% من مجمل معيلي الأسر الموريتانيّة، لأن الطلاق لا يعطي للمرأة حقها في النفقة وتربية الأبناء. كذلك تواجه المرأة لوحدها النتائج المأساوية للتفكك الأسري وتخلي الرجل عن مسؤولياته الاجتماعيّة، بالإضافة إلى انتشار ظاهرة الاعتداء الجسدي واللفظي عليها، واستغلال خادمات المنازل واغتصابهنّ وتزويج الفتيات القاصرات وهجر الزوجة وتعليق الراغبة في الطلاق. أما النساء العاملات، فنسبتهنّ في الوظائف القياديّة لا تتجاوز 4% على الرغم من أن الإناث يمثلن 51.6% من السكان. ولا تحصل الموظفة على راتب الرجل نفسه، على الرغم من تساويهما في المؤهلات والخبرات. كذلك، ثمّة تمييز في المنح الدراسيّة بحسب الجنس، وعدم مساواة بين الطلاب والطالبات في ما يخصّ الشهادات العليا.
- في الكثير من الأحيان، لا تطبّق العدالة في موريتانيا على المتورّطين في الرق والاغتصاب والتعنيف والقضايا المرتبطة بالنفقة وحضانة الأطفال...
للأسف الشديد، العدالة عندنا يتحكّم فيها أصحاب النفوذ والوساطات القبليّة والمحسوبيّة، بالإضافة إلى غياب قوانين رادعة في قضايا التحرّش الجنسي والعنف الأسري وجرائم الرق المنتشرة، على الرغم من إنكار السلطة لتلك الممارسة المشينة وأشكال أخرى من العنف التي تتعرّض له النساء في ظل التراخي في تطبيق القانون. وهذا ما يسهّل على المجرمين الإفلات من العقاب بذريعة الحريّة المؤقتة. وإن حُكِم على أحدهم، فإنه يسجن لأيام قليلة ثم يدفع كفالة ماليّة زهيدة ويخرج.
- كيف تتعاملين مع الفتاوى الظالمة بحق المرأة ومع الجماعات التكفيريّة التي توجّه سهامها إلى العاملين في مجال حقوق الإنسان، بخاصة وإن إحداها طالبت بتطبيق حدّ الردة عليكِ؟
الفتوى الحقيقيّة هي التي تصدر لصالح البلاد والعباد. أما ما يُصدره بعض الجهلة، فلا يعدو كونه وسيلة يستخدمونها لتشويه صورة الأشخاص وتصفية الحسابات الخاصة معهم.
- يتحدّث البعض عن شبهات تحوم حول مصادر تمويل المنظمات الحقوقيّة؟ هل تقدّم الدولة دعماً لكم؟
الدولة عاجزة عن مساعدة نفسها ولا تقدّم أي دعم وأكبر دليل على ذلك الأزمة الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي يعيشها البلد وتدهور القيمة الشرائيّة للعامل والبطالة المنتشرة في صفوف الشباب. وفي منظمتنا عشرة آلاف امرأة يدفعن اشتراك العضوية.
-