المحاكم والأقطاب المتخصصة بموريتانيا ، الواقع والإشكال

___________يعتبر التخصص صفة ملازمة للعمل القضائي منذ نشأته وبروزه للوجود ، الا أنه في ظل نشوء الدولة الحديثة عرف تطورا كبيرا نظرا لماتمت إناطته بالقضاء من مهام فرضت إعادة هيكلة وتنظيم قطاع العدل بالشكل الذي يسمح بآداء مهامه علي أحسن وجه ، فتم إنشاء المحاكم وبناء مقراتها ، وتحديد الإختصاص الترابي لكل واحدة منها ، وتصنيفها حسب ماتم منحه لكل واحدة من إختصاص نوعي إنطلاقا من مختلف فروع القانون .........
بيد أن التقسيم التقليدي لفروع القانون وإن كان يمتازبالتنوع والتعدد ، إلا أن التطور الهائل في شتى مناحي الحياة قد إستحدث فروعا أخري لم تكن معروفة من قبل ، بحيث أصبح من المستحيل علي قاض فرد أوتشكلة قضائية الإحاطة بتلك الفروع مما فرض إنشاء محاكم متخصصة في كل فرع من فروع القانون واستحداث أخرى متخصصة في قضايا معينة داخل أي فرع من تلك الفروع متي ما دفعت الحاجة الي ذلك ، علي أن استحداث محاكم متخصصة لايكفي لوحده مالم تتم مواكبته بتكوين معمق في مجال تلك التخصصات أوبتعبير آخر ضرورة المواءمة بين اختصاص القاضي والمحكمة المتخصصة حتي يتحقق التخصص معنا وغاية .................
وانطلاقا من تلك المقاربة يتضح بشكل واضح وجلي أن تطور التنظيم القضائي بموريتانيا كغيرها من البلدان الأخرى قد إرتبط في الواقع بماتم تسجيله من تزايد في حجم ونوع القضايا المعروضة علي محاكمها في السنوات الأخيرة والمتعلق في حقيقته بتصاعد النمو الديمغرافي والتطور الإقتصادي والإجتماعي والثقافي ...............للبلد الذى أدى الي تحول تلك القضايا من طورالبساطة التي لم تكن تتطلب من القاضي بذل مجهود كبير للبت فيها الي طور التعقد والتشعب والدقة والغموض الذي يتطلب العمل علي خلق هياكل وكوادر قضائية قادرة علي مواكبة تلك المستجدات ، وهو ما فرض علي المشرع الموريتاني إعادة هيكلة المحاكم بالشكل الذى يضمن أدخال محاكم وفرق للتحقيق لم تكن معروفة بدواعى وضع حد لما تم تسجيله من تراكم للقضايا المنشورة أمام بعض المحاكم والبت في بعض القضايا الأخري التي تتسم بخصوصية معينة أوتلك التي أصبحت تدخل ضمن فرع من فروع القانون لم يكن معروفا من قبل ...........
واستجابة لتلك الحاجة فقد أظهر المشرع الموريتاني ارادة واضحة من خلال ماتضمنه قانون التنظيم القضائي لسنة 2007 من أحكام استحدث من خلالهاغرفة مدنية ثانية علي مستوي المحكمة العليا وفتح المجال واسعا أمام امكانية إنشاء اكثر من تشكلة مدنية وتجارية وجزائية في محاكم الإستئناف علي أن يكون من ضمن الغرف الجزائية المشكلة غرفتين أحداهما للإتهام والأخري للأحداث ، كما سمح كذلك بإمكانية تعدد الغرفتين المدنية والجزائية علي مستوى محاكم الولايات علي أن يكون من بينها غرفة للأحداث ، وأقر كذلك إمكانية إنشاء محكمة تجارية في عاصمة كل واحدة من تلك الولايات ، وقد تم بالفعل إنشاء محكمتين تجاريتين في كل من نواكشوط ونواذيبو وذلك لمواكبة ماشهدته هاتين الولايتين من تطور في المعاملات التجارية أدى الي ظهور الكثير من القضايا التجارية التى لم تكن معروفة من قبل نظرا لما تمتاز به من كثرة وتشعب وتعقيد بحيث لم يعد بمقدور غرفة تجارية مشكلة من قاض فرد التصدي لتلك القضايا والحكم فيها .
والي جانب مانص عليه المشرع الموريتاني من أحكام من خلال القانون المتعلق بالتنظيم القضائي فقد تم إستحداث العديد من المحاكم وإنشاء قطبين أحدهما مكلف بجرائم الإرهاب وآخر بجرائم الفساد ، وذلك من خلال قوانين خاصة فقد نص القانون رقم 015/2005 المتضمن الحماية الجنائية للطفل في مادته 142 علي وجوب إنشاء محكمة جنائية واحدة علي الأقل مختصة بالنظر في الجنايات المرتكبة من طرف الاطفال وتلك المرتكبة في حقهم مع إمكانية إنشاء محكمة مماثلة متي إقتضى الأمر ذلك علي مستوى كل محكمة ولاية ، كما نص كذلك القانون رقم 35/2010 المتعلق بمكافحة الإرهاب في مادته 20 علي ان المحكمة الجنائية بولاية نواكشوط هي وحدها المختصة في البت في جرائم الإرهاب ونص في نفس المادة علي تشكيل قطب للإرهاب يتمتع بإختصاص وطني علي مستوى محكمة ولاية نواكشوط يتكون من فريقين أحدهما من قضاة النيابة العامة والآخر من قضاة التحقيق حيث حدد إجراءات سير وطرق تنظيم وتشغيل هذين الفريقين فيما بعد من خلال المرسوم رقم 210/ 2011 ، كما نصت المادة 20 من القانون رقم 31/2015 المجرم للعبودية والمعاقب علي الممارسات الإستعبادية علي إنشاء محاكم ذات تشكلة جماعية للنظر والبت في الجرائم المنصوص عليها ضمن هذا القانون ، وعلي ضوء ذلك فقد تم إنشاء ثلاث محاكم جنائية في كل من ولاية الحوض الشرقي وولاية نواكشوط الجنوبية وولاية داخلت نواذيبو بحيث يغطي إختصاص كل واحدة منها مجال إختصاص محكمة الإستئناف التي تقع بدائرتها بإستثناء محكمة نواكشوط التي يمتد إختصاصها لدائرة إستئناف لبراكنة .
إضافة الي ذلك فقد إستحدث المشرع الموريتاني من خلال القانون رقم 04/20166 المتعلق بمكافحة الفساد في مادتيه 31 و32 قطبا مكلفا بمكافحة الفساد يتكون من فريقين أحدهما مشكل من بين أعضاء النيابة العامة والآخرمن بين قضاة التحقيق ، كما نص كذلك في المادة 33 علي إنشاء محكمة إبتدائية مشكلة من رئيس ومستشارين ضمن الدائرة الترابية لمحكمة الإستئناف بنواكشوط يمتد إختصاصها علي عموم التراب الوطني وذلك من أجل النظر والبت في الجرائم المنصوص عليها في قانون مكافحة الفساد وتلك المرتبطة بها والتي لايمكن فصلها عنها .
ومهما يكن من أمر فإن تعاطي المشرع الموريتاني واستجابته بشكل فعال لما يفرضه واقع العمل القضائي من مستجدات من خلال ماقام بإستحداثه من محاكم وأقطاب قضائية متخصصة ، لايكفى لوحده وإنما يتطلب الأمر الى جانب ذلك العمل علي معالجة بعض الإختلالات و خلق بعض الظروف الكفيلة بقيام تلك المحاكم بمهامها علي الوجه الذي يحقق آمال المتقاضين وأهداف المشرع من وراء إنشائها ، وهو مايمكن رصد بعض أوجهه من خلال النقاط التالية :
11) العمل علي توفير العدد الكافي من الكوادر البشرية مع خلق الجو الملائم من ظروف مادية ، برامج تكوينية ،مكتبات ، ندوات ................حتى يتمكن كل فيما يعنيه من متابعة آخرماتم نشره من دراسات قانونية وإجتهادات قضائية في مجال تخصصه ، ولكي تتولد لديه الخبرة والتجربة اللازمتين للقيام بمهامه علي أحسن وجه ، علي ألا يتم تحويله من مجال لآخر إلابناء علي مبررارات موضوعية تأخذ في الإعتبار إنسيابية العمل القضائي وتميز آداء المحاكم وحسن سيرها .
22) إن بعض المحاكم التي نص القانون علي أنشائها لم تتشكل حتى الساعة كما هو الحال بالنسبة للمحكمة الجنائية للقصر وكذلك الغرف الجزائية للأحداث علي مستوى محاكم الإستئناف ،ممايثير التساؤل عن مدى قانونية ماتتخذه المحاكم الجنائية العادية والغرف الجزائية علي مستوي محاكم الإستئناف من إجراءات وماتصدره من أحكام وقرارات بشأن الجرائم المنصوص عليها في قانون الحماية الجنائية للطفل .
33) ان مااستحدثه المشرع الموريتاني من محاكم متخصصة علي مستوى الدرجة الأولي لم تتم مواكبته بإنشاء نفس التشكيلات علي مستوي محكمة الإستئناف والمحكمة العليا ، مما قديتسبب في تباين الأحكام والقرارات وعدم إنسجامها....................
44) إن ما نص عليه المشرع الموريتاني من أحكام تتعلق بالإختصاصات الممنوحة لمحكمة الفساد قد تجاوز من خلاله حسب نص المادة 33 من قانون مكافحة الفساد ماتضمنه هذا القانون من جرائيم الي تلك المرتبطة بها والتي لايمكن فصلها عنها ، وهو ما يمكن معه القول بان تلك الأحكام تتعارض ومبدأ شرعية الجرائم والعقوبات من منطلق ان المشرع لم يحدد نوع وطبيعة الجرائم المرتبطة بما تم النص عليه من جرائم في قانون مكافحة الفساد كما انه لم يحدد تلك التي لايمكن فصلها عنها .
5) لم تتمكن محكمة الإستئناف بألاك من تحقيق الاهداف التي تأسست من أجلها والمتمثلة بالأساس في تخفيف الضغط علي إستئنافية نواكشوط ، وذلك لقلة القضايا المنشورة امام مختلف المحاكم التابعة لدائرة إختصاصها ، إذ كان من الأولي أن يتم إنشاء محكمة استئناف ثانية بنواكشوط بدلا منها .

والله أعلم
القاضي : عبد الله اندكجلى

اثنين, 18/12/2017 - 01:26