اشتهر النابغة الذبياني بقصائده التي يتأنق في سبكها ويتفنن في معانيها فيعكف عليها حولا كاملا، لتخرج حولياته دررا تتلألأ على جبين شعر كان أهله يتلذذون بإبداعه، فيقدمون عليه في حالة الإلهام، ويحجمون عنه إن هجرهم شيطانه. فلا يكتبونه تحت الطلب، ولا يقبضون ثمنه ربا نسيئة يتضاعف إذا عجز المدين عن القضاء في الآجال المحددة...
يحتاج المثقف، حين ينحرف عن المعرفة إلى المزادات العلنية، إلى السيولة، ولا سبيل إلى تحصيلها غير الاقتراض المؤدي إلى الإفراط في استنزاف المادة الأولية للوفاء بالالتزامات. وهكذا وقع السيد باباه في "شبيكو" صديقيه تاجر البندقية والكلونيل نورث. تعود الأول تقاضي الربا "بتك" دون المساس بأصل الدين فكان يكتفي من مدينه بقطعة من لحمه في شكل تدوينات شبه يومية، أما الكلونيل فهو عسكري صارم لا يرضيه سوى عرض مدينه في المزاد يصيح بمحاسنه... ومنها إتقانه العربية، وإلمامه بالفرنسية، وإقذاعه في الهجاء، وتملقه في المديح، وترخصه في الرواية... وافتتح المزاد بما يتقنه أكثر؛ بالهجاء فابتدأ بكفر النعمة حين أسندها لغير الله خلافا لمحكم التنزيل..(وما بكم من نعمة فمن الله)، وتمادى إلى الاستهزاء بشعائر الإسلام فأجاز أداءها طاعة لمخلوق من دون الخالق... بعد البرهنة على رقة دينه، طفق يعرض بيانه فتمنى "أن لا يكون الرئيس قد أعطى وعدا بهذه النية..." هذه صياغة بديعة لا يأتيها إلا المضطر، فتصبح النية، ومحلها القلب، لفظا منطوقا، كما يفعل الجهلة عند قيامهم إلى الصلاة كسالى... ومن الأماني ينحدر إلى عدم التصديق (إذا ساء فعل المرء...) متحدثا عن استرخاص "آخر لأرواح جنودنا..." متذكرا استرخاصهم الأول حين ذبحوا في لمغيطي فدفنوا دون مراسم... ثم ينهى عن المساعدات، والهبات والقروض ويأكل منها! فلم يرد عن العرب قولهم: ناهيك عنه، وإنما قالوا: ناهيك منه، وبه: صيغة مدح بمعنى حسبك وكافيك.(أنظر الكليات، والبصائر والذخائر)، ولا تعلق له بالمعنى الذي أخطأه، بل الأولى به بلهَ، أو دع عنك، أو فضلا عن. (أنظر الكتاب، كتاب سيبويه، لا كتاب معاوية). ومن المنحدر يتطاول (لعن الله الواصلة)، ويمد ذراعه ليسم محيط الرئيس ب"نواب الفاعل"، وهو تأكيد للمدح بما يشبه الذم، ويعيرهم بما يتقاضونه في بلادهم لقاء كفاءاتهم!!! فما قوله في جوّاب آفاق غاية طموحه أن يستخدم همزة وصل بين مراب ومرتش، إذا اجتمعا، وإذا انفصلا صار حرف علة يحذفه الأول في حالة النصب لأنه لا يريد شهودا، فيليط بالثاني التصاق واو عمرو. فإذا قضيا منه وطرا وزهدا فيه عاد إلى حالته الطبيعية، وفق قانون العطالة، لا محل له من الإعراب... أليس هذا شبيها بقول أبي الصعاليك.. لحى الله صعلوكا إذا جن ليله*** مصافي المشاش آلفا كل مجزر يعد الغنى من نفسه كل ليلة*** أصاب قراها من صديق ميسر والغريب أن من حاله هذه يحذر...أن يرد عليه "بكلام بلا نحو..."! ويضرب الأمثال دليلا على التباس معنى الكلام والكلم في ذهنه. فالكلام، في اصطلاح النحاة،"ما اجتمع فيه أربعة أمور؛ أن يكون لفظا، وأن يقصد المتكلم إفادة السامع، وأن يكون مفيدا فائدة يحسن السكوت عليها، وأن يكون مركبا تركيبا إسناديا..." فلنقرأ الكلام الذي حذر منه باباه باعتباره "كلاما بلا نحو". يقول:"... من قبيل ارتفاع نسبة النمو، وشق الطرق، وإنارة نواكشوط بمصابيح شمسية..." أليست هذه جمل سليمة المبنى واضحة المعنى، يدرك الموريتانيون ماصدقها وإن أنكره من ينكر اليوم ضوء الشمس. كل هذا وغيره كان أحلاما بالنسبة للموريتانيين أيام ولد الطايع الذي كتبت فيه المعلقات التي تضيع (أو تضيء حسب المعروض في المزاد) اليوم على باب ولد بعماتو. فقد وصفته برجل الأعمال المتميز، "ولست في وارد الدفاع..." (يكاد المريب يقول خذوني)، ويزعجك الزحام من حوله (مصداقا للمثل الشهير)،" ولا تنقصه أقلام الكتاب المدافعين..."، وتحليه بالوطنية، ودليلك عليها استحواذه على صوملك، ونهبه سونمكس... أما قولك إنه يراد له أن يدفع ضريبة النجاح، فالمجاهيل بلا إرادة، ولا وجود لجباية تدفع لقاء النجاح، إنما طلبت منه إدارة الضرائب دفع الجباية المعلومة على الأرباح الربوية التي راكمها. لا غرابة في أن يشن باباه حملة على وطنه إرضاء لتاجر فطم عن النهب الممنهج لثروات الفقراء.. فمن افترى خطابا سياسيا لمعاوية، وهو المشهور بالعي في مجالس اللهو والتبسط مع الخلان، فإن لسان حاله يقول: أنا أبو قلمون*** في كل لون أكون... تنبيه: لقد آثرنا حذف حرف النداء في العنوان، لأن مقاصد الكاتب، وهي ما يعنينا منه، قريبة يكفي لتناولها جمع السبابة والإبهام... فلا عدوى ولا طيرة.