حملة "المليون" وتكريس القبلية / الشيخ المامي

القصة: حينما يأس أنصار بن أبي، في المدينة من ولاء المجتمع لقائدهم بعد ان سحب الرسول صلى الله عليه وسلم البساط من تحت رجليه، أصبحوا كلما أراد أحدهم احداث بلبلة ما، صاح يآل الأوس ويصيح آخر يآل الخزرج، ليجمع الرسول صلى الله عليه وسلم صحبه ويقول: "أبدعوا الجاهلية وأنا بين اظهركم...؟!"

المقال: مع كل موسم انتخابي أو "انتسابي" أو جولة رئاسية داخلية، وفي ظل وجود وسائل التواصل الجمعي وما يشوبها من سلبيات قد تغيب عن اغلب المستخدمين، تبرز في المجتمع الموريتاني نبرة مرتكزة على القبيلة غارقة في الجهوية تشكل خطرا حقيقيا على النسيج المجتمعي للمؤسسة وتمثل زيادة كبيرة في تسطيحها.

ومع ظهور مؤسسات الاعلام الربحي، وفي ظل التقزيم والحصار الممنهج الذي يعيشه الحقل الإعلامي عموما، وغياب المؤسسات الرقابية الفاعلة، لم تجد غالبية المؤسسات الإعلامية أمامها سوى فتح منابرها وصفحاتها وأثيرها لرسائل اشهارية و "مبادرات" قبلية تهدم البنية الاساسية لكينونة الدولة بمعناها الحداثي "الدولة المدنية" وترسخ القبلية والجهوية والمشيخية بمفهومها "السياسي" في شتى ابعاد تلك الرسائل «الصفراء" إعدادا ونشرا وتوثيقا وتقديما ومضمونا.

كما ان افتقار المؤسسات الاعلامية الموريتانية لرؤية عملية وثروات إنتاجية وتخطيط سليم وهادف يضيف مادة مفيدة للمشاهد، ومع غياب الطواقم الصحفية المؤطرة معرفيا والمتمرسة ميدانيا، وغياب المؤسسات الإعلامية المستقلة ماديا، أوجد كل ذلك بابا مفتوحا لكل السياسيين النفعيين والاستغلاليين والدهمائيين وأصحاب الأهداف الشخصية الضيقة الذين يفتقدون لمنابر يبثون من خلالها رسائلهم ويسوقون فيها لبرامجهم وأهدافهم وذواتهم.

وخلال حملة انتساب "المليون" الأخيرة بدت في الأفق بعض الظواهر الموغلة في الظلامية تمجد القبيلة وتاريخها وتكرس لقيام مشيخيات جديدة ولو بأسلوب أكثر حداثة وهي ظاهرة تستوجب التوقف عندها وما يمكن أن تفضي إليه من سلبيات تؤثر على النسيج المجتمعي القائم على الاحترام ورعاية حقوق الفرد الذي هو أساس الدولة المدنية.

ان المجتمعات البدوية ونظرا لظروف الحياة الاقتصادية والطبيعة المجتمعية ذات الفوارق من فصيل للآخر ومن منطقة لأخرى، تظل هدفا سهلا لترسيخ الأفكار ذات البعد الرجعي وبالتالي تترسخ القبلية والجهوية فيها بشكل أسهل، في نفس الوقت الذي تذوب كل تلك الأفكار في ظل الدولة الحديثة لتشكل نسيجا مجتمعيا يمثل البناء العام للدولة بعيدا عن القبلية ذات المفهوم الضيق.

صحيح ان لقبيلة قادرة أن تكون قوة مؤثرة إن غيرت طريقة تفكيرها وبنت كيانها على أسس حزبية تمكنها من تحويل قوتها الجماعية المستهلكة وتكافلها الاجتماعي الذي يذهب ولا يستغل سوى في المناسبات إلى قوة اجتماعية وطنية حضارية كبيرة.

لكن لو نظرنا اليها بنيويا فإن القبيلة تنبني أساسا على نظام اجتماعي يبني الجماعة على حساب الفرد الضعيف أما الدولة المدنية فتبني الفرد القوي المعبر عن نفسه والمالك لحريته وقراراته ليكون ذلك الفرد مع أشباهه جماعات قوية تتمثل في احزاب ونقابات وجمعيات محلية، فالخلاف بين القبيلة والدولة المدنية إذا خلاف جوهري.

ان هيمنة قوى الترسب القبلي على قوى التوجه المدني سيجعل من المؤكد ان البُعد القبلي في موريتانيا سيشكل خطرا كبيرا على مفهوم الدولة في مراحل قادمة، إذ ان تعامل الناخب من منطلق العصبية كمصدر للثقة سيزيد الهوة بينه وبين الدولة، والزعامة القبلية تصبح هناك في موقع الوسيط بينه وبين الدولة، وبالإضافة الى ذلك، فإن تناغم النظام القبلي مع المؤسسة الدينية التقليدية التي تسوق لاحترام القبيلة دينيا، سيشكل عامل اختلاف كبير عن ناخب الدول ذات ديمقراطيات حقيقية مما يجعلنا اما دولة وهمية تسيطر عليها القبيلة، ويعطى قوة دافعة للقوى القبلية لطرح نفسها كفرس وحيد يمكن ان يراهن عليه بحكم الرضى بالأمر الواقع.

ان التحالفات والتحرشات والصراعات بين القبائل اثناء الانتخابات و "الانتسابات" هي أكبر مؤشر خطر يبين مدى خطورة السير في الطريق التي تنتهجها الأحزاب الحاكمة في موريتانيا خلال حملاتها الانتخابية و "الانتسابية" وتجبر الاحزاب السياسية ذات البعد البرامجي والأيديولوجي على احترام قواعد العمل القبلي وبالتالي مزيد من التحكم للقوى الظلامية وخطر حقيقي على الدولة المدنية.

ان توافر وعى سياسي وخبرة كافية لدى الناخبين الموريتانيين في التعامل المباشر مع الدولة بدون وجود وسيط من القبيلة وهي خبرة اكتسبها المواطن الموريتاني من تبادل المعلومات مع الدول الديمقراطية خلال حملات توعوية شاملة ومتكاملة تقوم عليها مؤسسات مستقلة ومؤسسات مجتمع مدني واعلام حر يذيب الفروق بين المواطنين ويغلب الانتماء للدولة على الانتماء للقبيلة، لهو ما سيكل حالة صدام مع المجتمع القبلي المحافظ والمسيطر مما يأهل البلد لقيام ثورات وبلابل وحروب قد تهدد وحدته وتماسك نسيجه واستمرار مسيرته.

وإذا كان المؤرخ حماه الله ولد السالم يقول ان (السلطات الموريتانية رسخت الولاءات القبلية لأسباب سياسية واستخدمت القبيلة لجمع الولاء للنظام القائم) فان وجهة النظر المدنية ستجعل الدولة شريكا في العملية بل أكثر من ذلك هي من رسخها مما سينزع ثقة المجتمع المدني في الدولة وكل ما يمثلها من أحزاب وهيئات ومؤسسات، وبالتالي ستصل العلاقة بينهما الى مرحلة الانسداد ليضيع مفهوم الدولة في معمعان ذلك.

ان ترسيخ مفهوم الدولة في المجتمع الموريتاني لن يتحقق إلا بتحييدها عن تأثير وسيطرة عرابي الترسب القبلي، كما ان تحييدها يعني ابعادها عن دائرة تجاذب المصالح الفئوية بحيث تبقى هي الضمان الموحد لكل المواطنين.

كما ان تقديم الخدمات العمومية لتشمل كل المناطق والفئات بغض النظر عن ولائها السياسي سيسمح بتوسيع دائرة الدولة على حساب القيادات القبلية، ليرتبط المواطن بالدولة مباشرة وليس عن طريق شيخ القبيلة، على الأقل في مجال المصالح الحيوية الذاتية، وبهذا يتحول ولاء المواطن الى الدولة بالتدريج بدلا من القوى القبلية المسيطرة في الوقت الراهن.

للعبرة: وحدها المجتمعات القبلية البائدة هي من تمنح لأبنائها فرصة القيادة بدون مؤهلات فكرية مستنيرة.


أحد, 20/05/2018 - 19:12

إعلانات