شهادة للحق والتاريخ.. .................................................

 

أثارت إعجابي وحركت مشاعري المداخلة الرائعة للنائب البارز القاسم ولد بلالي في مداولات البرلمان الماضية، بحضور وزير العدل، والمتعلقة بمسؤولية الدولة الموريتانية عن حماية مواطنيها مهما كانوا وأين ما كانوا، وهذا هو الكنه الحقيقي للعقد الاجتماعي الذي نشأت بمقتضاه الدول والحكومات من أجل سعادة وأمن ورفاه جميع المواطنين.

وكان بيت القصيد هنا هو قضية المواطن سيدي ولد هيدالة ابن الرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيدالة، وأنا طبعا هنا أتمسك بكل ما قاله النائب الحكيم والمحترم، لكنني سأتناول أمورا مهمة تأكيدا لما ذهب إليه، ومفصلا فحواها للمزيد من البيان وشهادة للحق والتاريخ بمناسبة اليوبيل الفضي لعيد الاستقلال الوطني.

  • ففيما يعني الظلم الذي وقع على أخوتنا في المناطق الشمالية، فقد بالغ البعض بنعتهم بشتى النعوت الجائرة، وهذه مفارقة صارخة، فهم الذين قاتلوا جبهة البوليزاريو بضراوة، وكانوا مجنا لنا ودفعوا غاليا من أجل الذود عن حدود وطننا العزيز، فهم كافحوا ونافحوا في الجيش الوطني جنودا وفي المجتمع أبطالا مغاوير شيمتهم العزة وإلا باء، هذا في وقت الذي كان فيه البعض يتملص من الخدمة العسكرية فرارا بجلده تحت وقع ضربات الأعداء.
  • أما فيما يخص الافتراءات والتهم الجائرة الموجهة إلى شخص الرئيس الأسبق محمد خونا ولد هيدالة، والذي أفاض فيه النائب المحترم بالحقائق والأدلة الناصعة، فإنني أتمسك بكل ما قاله وأدعمه بشهادة من ميدان القتال - أي نعم ميدان الزحام الذي لا يكذب، وطبعا ليس ميدان الصالونات الفارهة التي تعتبر فقط مكانا للترهات والأباطيل، والتي لا غرض لها سوى النيل من الأبطال الشجعان أمثال الرئيس الأسبق المقدم محمد خونا ولد هيدالة، ولكن هيهات وكما يقول الشاعر:
أرى العنقاء تكبر أن تصادا *** فعاند من تطيق له عنادا

فبعد أن وضعت الحرب أوزارها بين موريتانيا وجبهة البوليزاريو، شاءت لي الأقدار أن ألتقى بالحرب ناطقة.. حارة بكل مشاعرها وأحاسيسها، متمثلة في العريف الحافظ ولد سيد العبد رحمه الله، والذي تربطنا به علاقة محبة وقربى، كنت ساعتها في مدينة مقطع لحجار، وكنت أتابع الدراسة في الصف الثاني ابتدائي، وكان الكل أثناء الحرب وبعدها يعيش على أعصابه جراء هواجس الخوف بسبب حدودنا الشمالية اللامتناهية في أعماق الصحراء، وكانت آنذاك المعلومات شحيحة عن الحرب وميدان القتال وعن أداء الجيش الموريتاني، وأسباب فشله في صد هجوم عصابات البوليزاريو التي شنتها على مختلف أنحاء الوطن، مما خلق مناخا عارما من انعدام الأمن والاستقرار.

كما أتذكر أثناء الحرب ونحن في البادية تلك البعثة الطبية التي أتت لمخيمنا وأخذت مني الدماء كباقي فتيان الحي لإسعاف جرحى قواتنا المسلحة، وما زال وشمها ماثلا في ذراعي، وأنا أفتخر بذلك لأن الوطني يستحق أكثر من ذلك، وهو الأمر الذي حرك في نفسي رغبة عارمة من أجل الاطلاع على مجريات تلك الحرب التي بذلنا فيها الغالي والنفيس وخيرة جنودنا الأبطال.

وكما أتذكر جيدا ذلك الجو المشحون بالهلع والخوف في مدينة مقطع لحجار، فكنا ونحن فتية نلعب في الجزء الشمالي للمدينة، نلاحظ ملاجئ أقامها بعض أفراد الحرس الوطني وأعوانهم تأهبا لمجابهة الأعداء ورد كيدهم.

وبلغ الذعر بالسكان حدا صار لكل صوت مدوي هلع واستنفار،حتى ولو كان انفجار إطار شاحنة..!! هذه هي معنوياتنا آنذاك، ولكن ما هي معنويات جنودنا في ساح القتال وميدان الأبطال؟!!

حيرة هذا الواقع هي التي جعلتني مثل الكثيرين غيري متعطشا إلى معرفة كل شيء عن هذه الحرب من طرف المرحوم العريف الحافظ ولد سيد العبد القادم توا من ميدان القتال والمصاب بجروح متعددة جسدية ومعنوية بادية للعيان.

والذي كان قد خدم إبان الحرب تحت قيادة الرئيس السابق والمقدم محمد خونا ولد هيدالة، حيث شهد لنا  أنه كان بطلا وطنيا لا يهاب الموت، وكان لا يرحم بالأعداء، وكان مواظبا على صلاته، ولا يعيقه عن تأديتها لعلعة الرصاص وأزيز المدافع، الأمر الذي يدفع الجنود  - كما يقول العريف الحافظ - إلى جعل السيارات درعا له حتى يكمل صلاته، إنه حقا الثبات والورع ومنتهى الشجاعة والبسالة.

كما كان يحيط جنوده بعناية فائقة يفرح لفرحهم، ويحزن لحزنهم.

وذكر لنا العريف الحافظ - رحمه الله - بأن الوقت الذي قضاه تحت قيادة المقدم محمد خونا ولد هيدالة لم يتجرعوا مرارة الهزيمة قط، بل كان الانتصار دوما حليفهم.

أما فيما يخص أسباب فشل الجيش وتخبطه آنذاك في مقارعة جبهة البوليزاريو فيرجعه العريف الحافظ، إلى الإهمال والتقصير وانعدام الخبرة، وقلة العدة والعتاد، وأعطى مثالا على ذلك وقال بأنه بعد أن ترك الخدمة تحت قيادة المقدم محمد خونا ولد هيدالة، وذهب إلى كتيبة أخرى، وبينما ما هم على ثغور الأمامية لمواجهة العدو ، كثيرا ما تتآخر عنهم إلامدادات العسكرية وفي كثير من الأوقات..  وبينما هم ينتظرون على أحر من الجمر، تباغتهم جيوش الأعداء، وكان كما حكى لنا العريف الحافظ بزفرات شديدة معبرة.. كانت أوقاتا عصيبة لن تنسى أبد الآبدين.. لأنه فقد فيه الكثير من زملائه وأحبائه.

كما ذكر أنه في كثير من الأحيان يموت الجنود عطشا أو تحت مرمى نيران أسلحة العدو، لقلة السائقين بين الجنود لقيادة السيارات وإجلاء الجرحى والمنكوبين.

كما أشار أيضا إلى أن مشكلة انعدام التخطيط والاتصال بين مختلف فيالق الجيش الموريتاني كلها أمور أدت إلى الكثير من المعاناة تسببت في الخسائر الفادحة وهو الأمر الذي أودى بحياة الكثير من جنودنا جراء نيران صديقة، أو تحت وقع عجلات شاحنات جيشنا وهم رابضون في ملاجئهم الترابية.

وكانت فرحة العريف الحافظ - رحمه الله - كبيرة فبينما هو معنا في مدينة مقطع لحجار، إذا بقائده السابق وبطله المغوار محمد خونا ولد هيدالة يحط الرحال رئيسا للبلاد في زيارة اطلاع لمدينة مقطع لحجار، فما كان منه إلا أن تأبط بطاقته العسكرية، واتجه نحو مكان الضيافة دار الحاكم التي لا تبعد عن منزلنا سوى مائة متر ونيف، فصرت أرقبه حتى توارى عني بين الجموع، وبقيت أنتظر رجوعه بلهفة شديدة.. لا لأنه يعلمني اللغة الفرنسية من كتابه الذي لا يفارقه (إفريقيا - إفريقيتي) إلى حد أنني طغت على ذاكرتي اللغة الفرنسية آنذاك حتى شردت مني سهوا بعض العبارات الفرنسية في حصة اللغة العربية في الصف الثاني ابتدائي، فما كان من المعلم إلا أن لسعني بالسوط.. وقال لي تتكلم بالأجنبي..!!

بل تعطشا فقط لمعرفة نتيجة رغبة هذا العريف المسكين في لقاء رئيس الدولة محمد خونا ولد هيدالة، وهل سيوفق في لقاء قائده الباسل وصديقه في ميدان القتال..!!

وطبعا كان المقدم عند حسن ظن العريف كما كان دوما، وكان الرئيس مثالا في الوفاء، وقمة في الأخلاق فما إن قدم العريف الحافظ بطاقة هويته العسكرية أدخل مباشرة إلى قائده ورئيسه محمد خونا ولد هيدالة فرحب به منتهى الترحيب وسأله عن حاله وعن ظروفه، وضرب له موعدا عند رجوعه إلى العاصمة انواكشوط، كما أوصى السلطة الإدارية بإحاطته بعناية ما دام هناك.

هكذا يكون الأبطال الشجعان أوفياء بطبعهم، لا يتنكرون مهما كانوا، حتى ولو كانوا في أعلى هرم في السلطة، يقدرون ويحترمون جنودهم البواسل الذين عاشوا معهم لحظات السراء والضراء.

إنها شهادة حق على رجل قمة في الشجاعة والأخلاق والوفاء والورع..

وهكذا بعد هذه الزيارة بمدة قليلة، تم الانقلاب على نظام الرئيس محمد خونا ولد هيدالة، كما رجع العريف الحافظ ولد سيد العبد إلى العاصمة انواكشوط، ليفارق الحياة هناك جراء الجروح الجسدية والنفسية الغائرة التي أصيب بها في ميدان القتال، كفاحا عن هذا الوطن العزيز.. فكانت أناته.. وزفراته التي يطلقها بين الفينة والأخرى ترجمة صادقة لوقائع تلك الحرب الفظيعة التي عاش أحلك أوقاتها وأصعب لحظاتها.

وهكذا كان العريف الحافظ كغيره من الجنود الأبطال الذين خاضوا جحيم تلك الحرب المدمرة، محطمين جسديا ونفسيا ومعنويا بسبب هول تلك المعارك الشرسة، والإصابات الخطيرة التي أصيبوا بها بدنيا ومعنويا، ومما زاد ألمهم فظاعة هو الاهمال وعدم العناية التي قوبلوا بها من طرف الدولة والشعب الذي بذلوا الغالي والنفيس من أجل عزته وكرامته، حيث وضعوا أرواحهم على أكفهم فداء لهذا الوطن الغالي، وكانوا حضا حصينا لنا من كل الأدواء والأعداء.

إننا في موريتانيا الجديدة وفي ظل تخليدنا لليوبيل الفضي لعيد الاستقلال الوطني، يجدر بنا أن نقف وقفة إجلال واحتفاء وتقدير بكل زملاء وقواد العريف الحافظ وكل الجنود الأبطال الأحياء والأموات الذين بذلوا أرواحهم فداء لهذا الوطن العزيز.

في جميع الحروب والمواقع العسكرية التي خاضتها قواتنا المسلحة وقوات أمننا الوطني من أجل حماية وعزة هذا الوطن العزيز.

وعلى ذلك فإننا بهذه المناسبة العظيمة نطالب الجهات المعنية بتنفيذ الإجراءات التالية:

 

  • إنشاء نصب تذكاري للجندي المجهول في حدائق العاصمة انواكشوط، يكون ذكرى لكل الشهداء الذين سقطوا فداء لهذا الوطن العزيز، ويكون معلما ومزارا بارزا يحكي مأثرهم لكل الأجيال مهما استطال الزمن.
  • إعداد وإعلان لائحة بأسماء وصور كل شهداء الوطن في الذكرى الخمسين لعيد الاستقلال الوطني.
  • إنشاء متحف عسكري يحوي كل الوثائق والمعلومات عن الحروب والمواقع العسكرية، والجنود الذين خاضوها.
  • منح الرعاية الصحية المجانية لجميع المحاربين القدامى وصرف علاوة نقدية لكل الأحياء والأموات ممن ضحوا بحياتهم في سبيل هذا الوطن، والتكفل بأسرهم بعد موتهم.
  • تخليد يوم للاحتفاء بكل شهداء الوطن يطلق علية "يوم شهيد الوطن" لإعلام الأجيال بأهمية التضحية في سبيل عزة الوطن ومدى عظمة هذا الوطن الغالي.

 

وإننا بتنفيذنا لهذه الإجراءات نكون قد وفينا ببعض ما علينا لكل شهداء هذا الوطن، وكل من بذلوا الغالي والنفيس في سبيل عزة وشرف هذا الوطن العزيز.

 

ذ/ جمال ولد عباد

 

أحد, 24/09/2017 - 18:39