لمحات من حياة العلامة والمصلح السياسي الشيخ سيدي الكبير (1770-1868)) /عبدالله ولدميارة

ميارة2

مدينة بتلميت مسقط رأس الشيخ سيديا الكبير ولد الشيخ سيدي بن المختار ولد الهيبة ولد أحمد دوله بن أبابك بن انتشايت الإبييري سنة 1190هـ ، 1770م في منطقة القبلة في الجنوب الغربي من موريتانيا ولاية اترارزة ونشأ في وسط علمي وديني شديد الالتزام.
تلقى معارفه العلمية الأولى ثم غادر المنطقة في رحلة انتجاع علميه استغرقت 38 سنة قضى منها 13 عاما في دراسة علوم اللغة على يد حرمة بن عبد الجليل (1150هـ ـ 1243م ، 1737هـ ـ 1828) .

وأربع سنوات في دراسة الفقه على يد حبيب الله ولد القاضي الإديجبي وعاما في المطالعة في مكتبات تيشيت وستة عشر عاما في دراسة التصوف والتبحر في أسرار الطريقة القادرية على يد العلامة الشيخ سيد المختار الكنتي وابنه الشيخ سيدي محمد في أزواد.
عاد الشيخ سيدييٌ من نجعته الطويلة إلى منطقة القبلة سنة 1827 بعلم وافر فأسس زاويته الذائعة الصيت في عموم المنطقة وكرس معارفه العلمية ونفوذه السياسي والروحي لإصلاح مجتمعه البدوي ونشر الطريقة القادرية في الغرب الافريقي وأهلته لذلك مكانته العلمية والدينية وبصيرته السياسية وأدبه الجم ونفوذه على أمراء المنطقة ووجهائها في القرن الثالث عشر الهجري .
سافر إلى المغرب 1834م فأحسن ملك المغرب استقباله وأهداه مكتبة ضخمة ثم عاد إلى مجموعة أولاد أبيري حيث تزوج سيدة فاضلة تدعى (محجوبة) أمامه بنت عالي ولد عبدي أنجبت له ابنه الشيخ سيدي محمد.
يقول صاحب الوسيط : ((نشأ الشيخ سيدي وأصله من تندغ من أولاد انشايت وإنما سكنوا أولاد ابييري فترابطت بينهم الأرحام وهو العلم الذي رفع على قطره واستظل به أهل دهره وماذا أقول في رجل اتفق على أنه لم يظهر مثله في تلك البلاد، وقد رأينا من أحفاده ما يرفع العناد، إذ من المعلوم أهم قاصرون عم مداه،أو لم يجاوزوه إلى ما وراه.
واشتغل في شبابه بالعلوم وبرع فيها بملازمته لحرمه بن عبد الجليل العلوي مدة طويلة ثم شد رحاله إلى الشيخ سيدي المختار الكنتي وبرع في الطريقة ثم رجع إلى أهله حيث اعترفوا بفضله.
ولم تزل فضائله تبدو حتى أذعنت له الزوايا وحسان وصار مثل الملك بينهم فلا يعقب حكمه. وكان أهلا لذلك كرما وحلما وعلما ولم تزل الدنيا تنهال عليه ويفرقها بين الناس.
كانت شنقيط تجعله حرما آمنا يضم عنده آلاف الناس يطعمهم ويسقيهم ويقضي جميع مآربهم حتى لقي الله ولا يسأله أحد حاجة إلا أعطاه إياها بالغة ما فضائله أكثر من أن تعد (راجع الوسيط لابن الأمين (240 ص ـ 242) .
عاد الشيخ سيدى من نجعته الطويلة إلى مسقط رأسه حيث الوضعية السياسية والاجتماعية سيئة.
فعلى المستوى السياسي احتدم الصراع بين إمارتي الترازرة والبراكنه، والاستعمار الفرنسي على التخوم يذكى الخلافات بين الإمارات ويشعل الصراعات الداخلية والاغتيالات السياسية ، والظلم والنهب الذي تمارسه المجموعات الحسانية المتغلبة . أخذ الشيخ سيدي في إصلاح هذا الوضع عبر مستويات من الإصلاح السياسي والتعليمي والاجتماعي والفكري.
فعلى المستوى التعليمي أسس جامعته المعروفة التي تجاوزت الدائرة الضيقة إلى دائرة الشيخ ومريديه الجامعة لمختلف الأقوام ونظم الزوايا مستفيدا من تجربته في زاوية الشيخ سيدي المختار الكنتي  ،فوضع الموارد الاقتصادية ووزع المهام المختلفة وحفر الآبار وأصلح الأراضي الزراعية وكفل طلبة العلم واعتني بالمرضى وآوى أصحاب السبيل واهتم بتربية الحيوانات باعتبارها عمود الاقتصاد الريفي التقليدي آنذاك، فغصت زاويته بأفواج الطلبة من كل حدب وصوب .
الدور السياسي :
استطاع الشيخ سيديي أن يحول التصوف من قضية شخصية بين العبد وربه إلى ظاهرة سياسية ليس في بلاد شنقيط وإنما في إفريقية الغربية.
وأهله ذلك للعب دور سياسي بارز مكنته رسائله المختلفة التي بعثها إلى الأمراء والوجهاء والقبائل والإدارة الاستمعارية وجعلته كما يقول المصطفى بن أعلمطالب أبرز مفكري الارستقراطية الدينية في العصر.
بدأ دوره السياسي يظهر في المنطقة عندما نهض بمهام قبيلته السياسية حيث توسط في النزاعات بين الإمارات خاصة في إمارة اترارزة التي اشتد فيها النزاع بسبب الإتاوات التي تدفعها مقابل السماح لها بالتجارة ، وتوسط في النزاعات بين البراكنة وبين الترارزة وآدرار وبين أمراء تكانت بكار ولد اسويد أحمد (ت 1323هـ ـ 1905م) وأمير الترارزة أعمر بن المختار (1251هـ ـ 1800م ـ 1243هـ ـ 1829م) الذي تعهد له بمبلغ من ميزانية الإمارة مساهمة في تسيير زاويته العلمية الشهيرة .
كما كان له تأثير قوي على ابنه الأمير التروزي الشهير محمد لحبيب بن اعمر بن المختار ، وسانده في صراعه ضد الفرنسين على الضفة ومحاولاتهم لاحتلال بلاد شنقيط رغم أن الشيخ سيدي توفي قبل دخول الاستعمار الفرنسي إلى موريتانيا .
إلا أن موقفه كان حازما واستطاع ببصيرته النافذة ورؤيته الواعية الفذة استشعار الخطر الاستعماري وسياساته التوسعية فعمل على لم شمل الإمارات البيظائية وتوحيد صفوفها للوقوف في وجه الزحف الفرنسي القادم.
في هذا الإطار انعقد مؤتمر تندوجة برعايته سنة 1856م وحضر المؤتمر أمراء اترارزة ولبراكنة وآدرار وتكانت وذلك لتنسيق جهودهم وحل خلافاتهم السياسية الجانبية.
وعضد ذلك المجهود الداخلي بالتوجه للخارج بطلب العون من سلطان المغرب الذي كتب له رسالة يطلب منه العون بالكتب والسلاح ، وعززت رسالته السياسية هذا الدور الذي اطلع به فكانت الأمراء والقبائل تتوسط به  كما تبين ذلك رسائله في التوسط بين أولاد أبييري وتندغة وبين اركيبات وتجكانت وبين تجكانت وكنت.
وكانت وسيلة الشيخ سيدي في ذلك هي الدعوة بالحسنى والجدال بالتي هي أحسن والإقناع .
الدور الفكري :
سعى الشيخ سيدي إلى إصلاح المجتمع سياسيا وفكريا عبر الدعوة إلى الإمامة وإقامة سلطة سياسية مركزية تقيم الدنيا وتحرس الدين ، ويعكس انتاجه الشعري جانبا من ذلك المشعل الفكري الذي اهتم به وعضده من خلال دوره الإصلاحي الاجتماعي عبر زاويته وتأثيره على الأمراء والوجهاء وإشاعته للفتاوى المختلفة التى تناولت مختلف نوازل البادية الشنقيطية .
ويمكن ملاحظة البعد الاجتماعي للشيخ سيدي والنظرة البعيدة التي يتمتع بها والتي سبق بها الكثير من المفكرين الإسلاميين الذين خلفوه من خلال تحفظه على تجربة "إديجب" في تطبيق الشريعة الإسلامية قبل تهيأة الأرض الصالحة لذلك وأفرد لذلك الموضوع مؤلفة المعروف بالميزان القويم والصراط المستقيم .
ورأي أن إقامة الحدود بصورة فردية يعرض القبيلة للخطر بسبب انعدام الوسائل الكفيلة لتحقيق ذلك الهدف النبيل . وطبيعي أن الشيخ سيدي كان يسعى إلى إيجاد مناخ أفضل لتوعية الناس وتهيئة الأرض المناسبة لقيام المجتمع الإسلامي أولا ثم بتطبيق الحدود.
فإن الحدود إنما شرعت لتنظيم المجتمع  ولابد من العمل على بناء المجتمع بمختلف أبنيته وهياكله وإحراز السلطة المركزية والقاعدة البشرية الراعية والفكرة الايديولوجية المحركة.
وعلى هذا المنوال سار الشيخ سيدي في مشروعه غير مستعجل ، ولا متناس لواقع مجتمعه البدوي ، وظروفه المختلفة الاجتماعية في العالم الإسلامي آنذالك .
لم تحل مكانة الشيخ سيدي ومشروعه الإصلاحي المناقض للمصالح الفرنسية من إقامة علاقة معهم على أساس الندية والاحترام.
وقد وعت الإدارات الاستعمارية الفرنسية مكانة الشيخ سيدي ونفوذه فاحترمته وقدرته.
وتبرز رسائله إلى الإدارة الاستعمارية جانبا من تلك المكانة وذلك الدور.
ويمكن أن نعطي مثالا برسالته لحاكم السينغال افيدرب 1854 ـ 1863 التي دعاه فيها إلى الإسلام مستعيدا الأسوة بالنبي صلى الله عليه وسلم حيث بعث إلى هرقل عظيم الروم يدعوه إلى الإسلام.
وتعتبر رسائل الشيخ سيدي مصدرا من مصادر التاريخ الإسلامي وتلقى الضوء على مختلف أطواره وتشكلاته الاجتماعية والسياسية وتقلباته الدينية ، ونأمل أن تتاح لنا فرصة لاتسعراض بعض هذه الرسائل بحول الله .
وفاته :
توفي الشيخ سيدي الكبير سنة 1284هـ ـ 1868 وترك تراثا ضخما من المعارف والفنون أهمها :
ـ بغية الخائض في حكم المتتبع بالحائض .
ـ تحفة الأطفال على لامية الأفعال
ـ خلاص النفس من الحبس رسالة في امتناع تمثل الشيطان بالنبي صلى الله عليه وسلم
ـ جواز التنفل بالخبث
ـ رسالة في حكم تعليم النساء .
ـ رسائل في أحكام وفوائد النكاح
ـ رسالة في خواص البسملة والفاتحة
ـ العلق الثمين
ـ رسالة في القبض والبسط
ـ رسالة في المال المدفوع للأكابر ولمداراة الظلمة
ـ شذور  الأذكار الماحية للأوزار
ـ شرح الصغرى للسنوسي
ـ شرح المقصور والممدود
ـ الكلام المقنع في مسألة المتمتع
ـ مجمع الطي والنشر في المسائل العشر
ـ مرآة النظر في وجوه خبايا المختصر، شرح به باب الفرائض من خليل
ـ الميزان القويم و الصراط المستقيم
ـ النفحة القيومية بتقرير الأجرومية .
أهم المراجع 1)
Stewart (c.c)
: Islam and social order in mauritania oxford 1973 2) الشنقيطي (ابن الامين ) :
الوسيط في تراجم أدباء شنقيط ،مكتبة الخانجي القاهرة ، مؤسسة منير موريتانيا ط (4) 1989م .
3) النحوي (خليل) بلاد شنقيط المنارة والرباط ، المنظمة العربية للتربية والثقافية والعلوم ، تونس 1987م.
4) محمد المختار (ولد اباه) : الشعر والشعراء في موريتانيا ، الشركة التونسية للنشر 1987م
5) المختار بن حامد : الحياة الثقافية ج (2) الدار العربية للكتاب تونس 1992م .
6) المصطفى بن اعلمب طالب : الأروستقراطية الدينية ، المدرسة العليا للتعليم 1985م
7) هارون بن الشيخ سيديا : كتاب الأخبار انواكشوط 1998م .
8) الشيخ سيد محمد بن الشيخ سيديا : ترجمة الشيخ سيدي الكبير ، المعهد الموريتاني للبحث العلمي.
9) سيد محمد حيلاجي : زعماء الإصلاح في موريتانيا (بحث غير منشور) نسخة شخصية .
عبد الله مياره.

أربعاء, 29/01/2014 - 03:43