تتجدد سانحة الحديث عن إصلاح العدالة بشكل تلقائي وأكثر إلحاحا مع كل تغير في المشهد السياسي. ولهذا الواقع ما يبرره في بلد يبحث مجتمعه وسلطاته وحتى قضاته عن عدالة لم يكتب لها أن تحتل مكانتها المناسبة منذ الاستقلال، بينما يتهم كل طرف الطرف الآخر بالمسؤولية عن إخفاقاتها. والحقيقتان اللتين لا خلاف حولهما أن العدالة ظلت لفترة طويلة غائبة أو مغيبة وأن كلا من الأطراف المذكورة يتحمل نصيبا من تلك المسؤولية.
لا تكمن أهمية الوقوف على أخطاء الماضي في تفادي الوقوع مستقبلا في نفس الفخ فحسب، بل إن الدراسات الاستراتيجية المعاصرة تعتبر الوقوف على تلك الأخطاء من خلال التقييم العلمي الموضوعي من أهم ضرورات رسم استراتيجيات أكثر نضجا وأقل احتمالية للفشل. ومن هذا المنطلق فمعرفة العوامل، الخارجية والداخلية، التي تحكمت في قطاع العدالة في السابق وتلك التي يتميز بها حاليا، معينة على فهم مكامن الضعف والقوة وأسباب الوهن الذي عانى منه القطاع؛ ومن شأنها كذلك أن تساعد في اقتراح مرتكزات الإصلاح المناسبة لتمكين السلطة القضائية من فرض مكانتها الدستورية ولعب دورها المحوري في دولة القانون والمؤسسات.
أولا: العوامل المسببة لوهن قطاع العدالة
لم تكن العدالة يوما بقضاتها وأعوانها ومرتاديها إلا مرآة عاكسة للنسيج المجتمعي وأسيرة لثقافته وعاداته وعلاقاته البينية ومناخه السياسي والاقتصادي. لذلك فلا غرابة في أن يتأثر القطاع دوما بالعوامل المتحكمة في مجتمعه بما فيها من سلبيات وإيجابيات. غير أن هنالك عوامل رئيسية حالت دون قيام سلطة قضائية مستقلة يمكنها أن تساهم في تجسيد مفهوم الدولة المدنية الساهرة على حماية الحقوق والحريات، ومن أبرز تلك العوامل:
1. بنية النظام السياسي وعدم تكريس واحترام مبدأ الفصل بين السلطات. لعل هذا العامل يجر طرفه على غيره من العوامل، فنظامنا السياسي الذي سيطر عليه منذ الحول الأول للدولة المستقلة، نظام الحزب الواحد لمدة ثمانية عشر سنة تقريبا، ليحل محله عقدان من الأحكام العسكرية، ويختتم الألفية الثانية بإرساء نظام تعددي غير ديمقراطي، لم يتعافى – نظريا - من هذه الوضع الاستثنائي إلا مع سلسلة التعديلات الدستورية المتلاحقة (2006-2012-2017). وفي ظل بنية سياسية هذه محطاتها الكبرى، لم يكن من محل للحديث عن مبدأ الفصل بين السلطات وتكريس دولة القانون والمؤسسات التي هي التربة الطبيعية لزرع مفاهيم استقلالية القضاء وسيادة القانون.
2. غياب إرادة سياسية جادة لتمكين القضاء. بعبارة أخرى مما ساهم في تفاقم آثار غياب الفصل بين السلطات، أن الأنظمة المتعاقبة منذ الاستقلال لم تكن من أولوياتها استقلال القضاء وقيامه بمهام نشر العدل بين الناس والمساهمة في تحقيق التوازن بين السلطات. بل يمكن القول إن السلطات السياسية كانت ترى في قوة القضاء تقويضا لسلطات النظام الحاكم المختزل غالبا في شخص واحد، يقوم في الواقع بدور السلطتين التشريعية والتنفيذية – لا فصل عمليا بينهما. وقد يكون الاستثناء الذي يؤكد ما ذكرنا هو ما يتحدث به بعض من عايشوا الحكومات المدنية الأولى أن بعض وزراء العدل كانوا يدافعون عن القضاة، لا عن استقلال القضاء؛ غير أن نتائج تلك الجهود يقيت ظرفية ومحدودة نظرا إلى أنها لم تتجسد ماديا في قوانين أو قرارات أو حتى ممارسة مستمرة تصبح مع الوقت عرفا جار به العمل.
3. استغلال القضاء سياسيا واجتماعيا. تميزت الفترات العسكرية وفترة النظام التعددي غير الديمقراطي بتسخير فج للسلطة القضائية لضرب المنافسين والخصوم السياسيين من قبل أجهزة الدولة؛ وقد يكون ذلك هو الهدف من الإبقاء على تبعيته حتى لا يتمكن من أخذ مسافة من المشهد السياسي والحركي وتداعياته والصراع بين أطرافه. كما تميزت هذه الفترة من جهة أخرى باستغلال القضاء اجتماعيا بسبب الحضور القوي للانتماءات القبلية والجهوية في الثقافة القضائية للمتقاضين ورواد المرفق القضائي وتأثر الفاعلين القضائيين (القضاة وكتاب الضبط) بتلك العوامل في أحيان كثيرة، بحكم تأثرهم بسلوك المجتمع الذي أفرزهم وثقافته وضغوطه.
4. تكوين القاضي وعلاقته بالإدارة. تلقت أوائل دفعات القضاة تكوينها المهني على يد المدرسة القضائية التونسية التي تعد من أعرق وأحدث المدارس القضائية بتكريسها نظام القضاء المطلق منذ سنة 1896. وقد كان من المفروض أن تشكل تلك الدفعة رائد الجهاز القضائي الحديث للدولة الفتية من خلال مدرسة متخصصة في تكوين القضاة وأعوانهم تكون نواة لقيام هذا الجهاز على أسس قانونية وعصرية، خاصة أن بين خريجي تلك الدفعة علماء بارزون قادرون على تأسيس جهاز قضائي حديث. ومن آثار عدم تأسيس مدرسة للقضاء غياب التكوين القانوني والاجرائي والوعي بالحقوق والمكانة الدستورية للسلطة القضائية. مما أدى بهذه السلطة إلى أن تم اختزالها في مرفق إداري تسيطر عليه السلطة التنفيذية من خلال مصالح وزارة العدل، التي تتحكم في قضاته عبر الأجور والتحويلات والعقوبات والحوافز الشحيحة. وتجسد ذلك في قيام علاقة غير متكافئة بين الإدارة والقاضي جعلت من الأخير مجرد موظف يتودد للأولى طمعا في نوالها ورهبة من سخطها. وكان من نتائج هذه العلاقة غياب القناعة لدى جميع الأطراف بضرورة قيام سلطة قضائية مستقلة مكافئة للسلطتين التشريعية والتنفيذية، وعدم بروز تيارات مطالبة بتكريس واحترام المبدأ الدستوري القاضي بفصل السلطات في شقه المتعلق بالسلطة القضائية، خاصة مع منع القضاة من الانتظام في إطار يدافع عن مصالحهم ويتحدث باسمهم.
5. ضعف البنى التحتية والامكانيات البشرية والمادية لمرفق القضاء. ينضاف إلى ما سبق إهمال المرفق القضائي وعدم تزويده بالضروري من الوسائل المادية مثل المقرات الملائمة ووسائل النقل وميزانيات التسيير ونفقات تنقل القضاة والتعويض لمساعدي القضاء من الفنيين والخبراء؛ كما أن ضغوط المؤسسات الدولية للحد من التوظيف العمومي، أدى إلى محدودية مخلة في عدد القضاة نسبة إلى عدد السكان وإلى توزيع الخارطة القضائية الشاسعة؛ حيث لم يكن عدد القضاة قبل سنة 2008 يتجاوز 170 قاضيا، بمن بينهم المعارون والمستودعون (رغم أن المعيار الدولي المثالي هو سبعة قضاة لكل مائة ألف نسمة)، مما جعل القاضي يجد نفسه في بعض الأحيان مكلفا برئاسة عدة محاكم تفصل بينها مئات الكيلومترات دون توفير وسيلة نقل من قبل الدولة، وفي أحيان أخرى مكلفا برئاسة محكمة ابتدائية تتكون من خمس غرف (محاكم) في ولاية يتجاوز سكانها 60.000 نسمة.
6. الاختلالات في توزيع أعوان القضاء وعلاقتهم بالقضاة. المحامون والمنفذون وكتاب الضبط والخبراء والشرطة الفنية كلهم مركزون في العاصمة وليس لمحاكم الداخل منهم حظ يذكر إلا في الحالات النادرة أو الملفات الاستثنائية. ولا يملك القاضي سلطة رقابة على أعوانه، أعوان القضاء. الأمر الذي أنتج مع الوقت نوعا من الارتجالية والزبونية في العلاقة بين الطرفين بسبب عدم وجود سلطة رقابية تمكن القاضي من توجيه عمل وسلوك هؤلاء الاعوان لخدمة القضاء. ولم تسعف النصوص المنظمة لعمل مختلف أسلاك أعوان القضاء في هذا المنحى، بل إن بعضها كرس فوقية العون القضائي على حساب القاضي (قانون الجمارك مثالا لا حصرا).
ثانيا: أزمة النصوص القانونية الناظمة لقطاع العدالة.
تمثل النصوص القانونية الناظمة لقطاع العدالة، وخاصة المقتضيات الدستورية ذات الصلة والنظام الأساسي للقضاء والتنظيم القضائي ونصوصهما التطبيقية، عصب الحياة بالنسبة للسلطة القضائية. ولا شك أن نقصها أو غموضها أو عدم فاعليتها يشكل أهم العوامل المسببة لوهن العدالة. ونظرا لأهميته هذا العامل وخصوصيته، ارتأينا أن نفرده بمعالجة مستقلة عن بقية العوامل المثارة في الفقرات السابقة.
1. غموض في مكانة السلطة القضائية في الدستور. رغم التعديل الدستوري الأخير (2017) الذي شمل المقتضيات المتعلقة بالسلطة القضائية، لم تحظ هذه الأخيرة بالمكانة الدستورية التي تجعل منها نظيرا حقيقيا للسلطتين التشريعية والتنفيذية. فإذا كانت المادة 89 ننص على أن السلطة القضائية مستقلة عن السلطتين التشريعية والتنفيذية، فإنها قد عهدت بضمان هذه الاستقلالية إلى رئيس الجمهورية الذي هو رئيس السلطة التنفيذية، مجسدة فيه دور الخصم والحكم في ذات الأوان؛ على عكس السلطة التشريعية التي حظيت بمكانة مستقلة تماما عن السلطة التنفيذية. كما أن دور المجلس الأعلى للقضاء لم يتحدد دستوريا، بل زاده الدستور غموضا بتقسيمه إلى تشكيلين برأس واحد ممثل في رئيس الجمهورية دون تحديد اختصاصهما وعضويتهما.
2. تعثر تعديل النظام الأساسي للقضاء الذي لم يعد متلائما مع الدستور بعد تعديله سنة 2017. فالمقتضيات القانونية المتعلقة بالمجلس الأعلى للقضاء، مثلا، لم تعد عاكسة أو مطبقة للمقتضيات الدستورية الخاصة به، بالرغم أن الدستور لم ينص على استمرار العمل بالمقتضيات القانونية الحالية الخاصة بالمجلس – كما نص على ذلك بالنسبة للمجلس الاقتصادي والاجتماعي والمجلس الدستوري والمجلس الإسلامي الأعلى – إلى حين إصدار القوانين النظامية الخاصة به؛ مما يبيح التساؤل عن مدى شرعية انعقاد المجلس بالتشكيلة المنصوص عليها في ظل قانون سابق على التعديل الدستوري المتعلق به. وإضافة إلى ذلك يعاني النظام الأساسي للقضاء في صيغته المعتمدة سنة 2006 من علات عديدة بعضها ولد مع النص أصلا والبعض الآخر راجع إلى ضرورات مواكبة المنظومة القضائية لتطور مؤسسات الدولة ومهام القضاء. ورغم أن الجهات المختصة بوزارة العدل قد شرعت منذ عدة سنوات في إعداد تعديلات على النظام الأساسي للقضاء، حتى قبل التعديل الدستوري الأخير، فإنها تر النور إلى الآن. وقد يكون ذلك من باب أن "كل تأخير فيه خير" حيث لا ينبغي لتلك التعديلات أن تعتمد إلا بعد ضمان استيفاءها لجميع متطلبات الإصلاح، والتي لا يمكن أن تؤتي ثمارها إلا بمشاركة جميع الشركاء المعنيين بالإصلاح، وبخاصة القضاة، العارفين أكثر من غيرهم – بحكم الممارسة والتخصص – بمواطن الضعف ومكامن النقص في المنظومة القضائية ونصوصها المطبقة عليهم.
3. تشوش الخارطة القضائية بسبب ظهور تشكيلات قضائية لاحقة على اعتماد التنظيم القضائي. لئن كان القانون المتعلق بالتنظيم القضائي يبيح إنشاء محاكم عند الحاجة، فإن حالات اللجوء إلى هذا الخيار قد تعددت درجة الإفراط، من خلال إنشاء عدة تشكيلات حكمية جديدة ذات أهمية وحساسية كبيرتين (محاكم مكافحة الرق ومحكمة مكافحة الفساد، محاكم ولايات جديدة بعد تقسيم ولاية نواكشوط ومحكمة استئناف جديدة)؛ مما تسبب في حالات من التداخل والغموض في توزيع الاختصاص مكانيا ونوعيا، وهو تداخل ينضاف إلى التداخل القائم بين المحاكم التجارية والغرف التجارية، وبدرجة ثانية مع محاكم المقاطعات؛ وقد رأى بعض المختصين في ذلك مساسا بقاعدة المساواة في النظر بين القضايا المتجانسة. كل ذلك يؤيد القول بالحاجة الماسة لإعادة النظر في هذا النص من أجل إعادة رسم الخريطة القضائية مع تحديد الحدود الولائية المكانية والنوعية لكل محكمة على أسس موضوعية وعملية تحقق العدالة والنجاعة في توزيع القضاة عليها.
4. تأخر اعتماد بعض النصوص التطبيقية للنظام الأساسي للقضاء وتقادم البعض الاخر. يكفي هنا أن نلاحظ أن النظام الأساسي للقضاء والتنظيم القضائي المعتمدين سنة 2006 واللذين تضمنا تغييرات جوهرية في المنظومة بشكل عام، إن لم نقل إنهما أسسا لمنظومة جديدة، قد قيدا أغلب مقتضياتهما بصدور مراسيم تطبيقية؛ ورغم ذلك لم يتم اعتماد أغلب تلك المراسيم التطبيقية. أما المراسيم المعتمدة في السابق فقد تجاوزها بدون شك التنظيم الجديد ولم يعد أغلبها صالحا للتطبيق، ما أحالها إلى نصوص مهجورة بسبب عدم قابليتها للتطبيق أو عدم ملاءمتها مع المسائل وضعت أصلا لمعالجتها.
ثالثا: مكتسبات يجب تعزيزها والبناء عليها
عدة مؤشرات وحقائق يجب عدم إهمالها عند التعاطي مع إصلاح العدالة. فالانطلاق من الفراغ موصل للفراغ. ورغم الوهن الذي عاشته السلطة القضائية لسنوات عديدة، فإن هناك مكتسبات تحققت مع الوقت يجب الحفاظ عليها وإطلاق وتيرة إصلاح العدالة منها.
1. القضاة هوم ركيزة السلطة القضائية؛ وقد قاوموا منذ تأسيس الدولة، رغم قلة العدد ومحدودية الإمكانيات، الظروف السياسية والمجتمعية وحتى النفسية غير المشجعة من أجل الحفاظ على الحد الأدنى لاستمرارية المرفق القضائي ومواجهة تحدياته. والقضاة اليوم قد تضاعفوا من حيث العدد، وتسلحوا من حيث التكوين، إلى جانب المعارف الشرعية، بأعلى الشهادات في مختلف التخصصات القانونية من أعرق الجامعات. هذه الطاقات، الشابة في أغلبها والمتحمسة في مجموعها لإرساء قضاء مستقل وفعال، ستكون أهم رافد لإصلاح القضاء وإعادة تأسيسه على أسس عصرية، خاصة إذا تم إشراكها في جميع مراحل العملية الإصلاحية بدء بإشراكها في عمل اللجان المعنية بوضع التصورات ومناقشة مشاريع القوانين مرورا بتحسين أوضاعها المادية وفتح الفرص أمامها في التكوين وتطوير المهارات، وليس انتهاء باحترام الشفافية والعدالة في ترقيتها وتحويلها بين المحاكم.
2. تحسن المناخ السياسي الممهد لاستقلال القضاء. تجلى الاهتمام بإصلاح قطاع العدالة من خلال اعتبارها بندا أساسيا في الحوارات السياسية المتلاحقة. وتجسد هذا الاهتمام في إدراجها ضمن التعديلات الدستورية لسنة 2017، رغم تحفظنا على ما تم في هذا الخصوص. غير أن المناخ السياسي الديمقراطي الذي جسدته الانتخابات الرئاسية لسنة 2019 يؤشر على أن الفرصة أصبحت سانحة لقيام سلطة قضائية مستقلة، حيث إن إرساء نظام ديمقراطي لن يكتمل بدون وجود سلطة قضائية مستقلة وفعالة. لذلك يمثل المناخ السياسي أرضية مثالية لتحقيق إصلاح العدالة، حيث إن السلطة السياسية، بدل أن تكون عائقا لإصلاح العدالة كما في السابق، ستكون أول الساعين إليه، نظرا لارتباط قيام الديمقراطية ودولة القانون و والمؤسسات بوجود سلطة قضائية مستقلة.
3. تحسن البنية التحية والمعدات رغم النقص المستمر. لا شك أن تشييد محاكم ودور للإصلاح (نريدها دورا للإصلاح وليست سجونا) خاصة في بعض ولايات الداخل وتجهيز المحاكم فيها بالأدوات اللوجستية الحديثة (كزمبيوترات وطابعات ...) قد ساهم في تسهيل عمل القضاة في ظروف أقل صعوبة؛ وإن كان هذا المكسب قد تراجع بعد سحب سيارات الخدمة من رؤساء المحاكم وترك سيارات النيابات للضياع دون صيانة.
4. تغير عقلية المتقاضين ورواد المرفق القضائي نحو القضاء. تعتبر الثقة في القضاء وأحكامه أكبر المكاسب التي تحققت للقضاء في الفترة الأخيرة، ويعود ذلك، في نظرنا، بالأساس إلى جهود القضاة من خلال الحضور الدائم في مقرات العمل وتحسن التعامل مع مرتادي المحاكم وجودة الأحكام القضائية ورفض الاستجابة للضغوط. ومن نتائج هذه الثقة تزايد الاقبال على المحاكم لرفع الدعاوى والشكاوى والقناعة بقراراتها، بل والإشادة بالقاضي في كثير من المناسبات. وينبغي استثمار هذه الثقة وتعزيزها من خلال تفعيل تنفيذ الأحكام القضائية، خاصة تلك الصادرة ضد الدولة وأصحاب النفوذ، ووضع سياسية عقابية يتعزز من خلالها دور الحكم القضائي في مكافحة الحد من الجريمة وإفلات المجرمين، وخاصة أصحاب السوابق من العقاب الرادع.
رابعا: العناوين العريضة لمقترح خارطة طريق
ككل عملية إصلاح، يتطلب إصلاح العدالة وضع تصور لما يتعين القيام به وكيف يتم ذلك والأولويات الأكثر إلحاحا والبرنامج الزمني للإصلاح والشركاء في تنفيذه. ويجب أن تستند تلك الرؤية إلى تشخيص دقيق للمشاكل القائمة وأسباب ظهورها واستمرارها وأهم المكتسبات التي ينبغي الحفاظ عليها وتعزيزها، وفقا للمنهج التحليلي (SWOT analysis) الذي يقوم على تحديد مواطن القوة (Strengths) والضعف (Weaknesses) والفرص (Opportunities) والمخاطر أو التهديدات (Threats).
وعلى أساس الملاحظات الواردة في الفقرات السابقة المتضمنة لمختلف هذه العناصر، نرى أن العناوين العريضة لخارطة إصلاح العدالة تتمثل فيما يلي:
1. الاعتراف من أعلى هرم السلطة السياسية باحترام مبدأ الفصل بين السلطات واستقلال القضاء، وتكريس ذلك في عدم التدخل في شؤونه، والصدع بهذا التوجه صراحة وعلنا للرأي العام وللمسؤولين وصيادي استغلال النفوذ واستغلال السلطة. وقد يكون المكان والزمان المناسبين لمثل هذا الإعلان هو افتتاح السنة القضائية في حفل مناسب يصدر فيه رئيس الجمهورية والقاضي الأول "كتاب القضاء" معلنا بذلك بداية عهد جديد في التعاطي مع الشأن القضائي.
2. استعادة القضاء هيبته ومكانته، من خلال خطوات ضرورية وملحة وغير مكلفة، منها على سبيل الاستعجال والضرورة انتظام إقامة حفل افتتاح السنة القضائية بما يمثله من رمزية، وإعادة الحراسات إلى المحاكم والقضاة، مع أن هذه الحراسات تمثل أيضا ضرورة أمنية في ظل تكرر السطو على المحاكم والاعتداء على القضاة، والتصدي بجد لظاهرة نشر الإشاعات والأكاذيب حول القضاء المشوهة لسمعته، وتفعيل المقتضيات الجزائية بهذا الشأن، بما فيها تغليظ عقوبة نشر الأخبار الكاذبة وإهانة القضاء.
3. استكمال مراجعة النظام الأساسي للقضاء والتنظيم القضائي وإعداد مراسيمهما التطبيقية، وإشراك المعنيين الأساسين بالعملية، أي القضاة، في دراسة وتصور مضمون هذه النصوص، حتى تعكس النصوص الجديدة الحلول الكفيلة بمعالجة المشاكل التي عايشوها خلال تجاربهم المهنية، وتضمن لهم الحقوق الأساسية التي يتطلعون إليها. وفي هذا الإطار يوصَى بتشكيل لجنة تضم خبراء من وزارة العدل والقضاة المجربين العالمين والخبراء المستقلين من خارج القطاع، وسيكون من المفيد كذلك الاستعانة بخبراء أجانب من الفضاء القضائي المغاربي والفرنسي اللذين تستقي منهما منظومتنا القضائية أغلب قواعدها وممارساتها.
4. دعم وتشجيع القضاة الشباب (قضاة الدفعات الحديثة) مزدوجي التكوين والخبرة بالتكوين المستمر، وإنشاء معهد قضائي لهذا الغرض؛ وتجسيد التخصص القضائي الفعلي، على غرار الطريقة الفرنسية والمغربية، بحيث يوجه القاضي إلى مجال قضائي معين من بداية مساره المهني ويستمر فيه، ويكون التنقل بين التخصصات فقط في الحالات الاستثنائية المبررة بضرورة التوازن أو برغبة القاضي نفسه؛ وحل عقدة المعادلة وفتح إمكانية الترقية أمام القضاة على أساس التميز وفقا لمبدأ المكافأة؛ وحتى يساهم ذلك في سرعة ولوج القضاة الأكفاء للمناصب القضائية السامية بالمحكمة العليا ومحاكم الاستئناف سبيلا لإرساء فقه قضائي موحد يمكن أن يشكل مرجعا للقاضي في النوازل المستعصية.
5. إعادة تشكيل الخريطة القضائية بشكل أنجع وعقلنة تحويل القضاة داخلها استنادا إلى معايير موضوعية تأخذ في الاعتبار ضرورة وجود قضاء كفء في محاكم الولايات ومحاكم المقاطعات بوصفها العصب الأساسي للقضاء والحامي لأهم الحقوق وأكثرها حساسية، دون المساس بمصالح القضاة أو استخدام النقل إليها كنوع من العقوبة أو التهميش.
6. توفير وسائل مادية كافية لمحاكم المقاطعات بشكل خاص تمكنها من أداء مهامها بما يتماشى مع أهميتها وحجم العمل الذي تضطلع به، وتوفير امتيازات خاصة جاذبة للقضاة وأعوان القضاء العاملين فيها، تكريسا لتمييز الإيجابي تبرره ظروف العمل في هذه المحاكم وتضحيات العاملين فيها.
7. إعادة توزيع المسؤوليات وعصرنة المؤسسات التابعة للسلطة القضائية؛ ومن أوكد ذلك إعادة تعريف دور وزارة العدل وعلاقتها بالقضاة، بحيث لا تبقى أداة لتدخل السلطة التنفيذية في شؤون السلطة القضائية وممارسة الضغط على القضاة، ومراجعة دور ومكانة المفتشية العامة للقضاء وجعلها تابعة للمجلس الأعلى للقضاء بعد تحويله إلى مؤسسة قائمة بذاتها في إطار تنفيذ المقتضيات الدستورية الخاصة به، وتحويل السجون إلى دور حقيقية للإصلاح والتكوين المهني، وتفعيل نظام المصادرة وتسيير المحجوزات.
8. إعادة رسم العلاقة بين القضاة وأعوان القضاء بشكل يجقق بصفة فعلية دور هؤلاء كأعوان للقضاء، بدل العكس المتمثل غالبا في تسخير المرفق القضائي لخدمة المصالح الضيقة لبعض المنتسبين لهذه المهن. ويتطلب ذلك مراجعة النصوص الناظمة لجميع أسلاك أعوان القضاء لملاءمتها مع متطلبات قيام سلطة قضائية مستقلة.
تطبيق هذه الخارطة يتم عبر خطوات عملية كثيرة ومتشعبة تطال مجالات متعددة، ويشارك فيها إلى جانب الجهات الحكومية المعنية، القضاة وأعوان القضاء والصحافة والرأي العام. وقد أورد القاضي الدكتور هارون بن عمار إديقبي بالتفصيل بعض أهم تلك الخطوات وأكثرها إلحاحا في منشور يمكن الاطلاع عليه على صفحته الفيسبوكية، وفي بعض المواقع الإلكترونية، تحت عنوان "مائة مقترح لإصلاح العدالة".
ختــــــــــــاما
لا شك أن الأفكار العملية والعلمية لإصلاح العدالة متوفرة لدى صناع العدالة. فالحقل القضائي بطبيعته مقصور على النخبة العلمية؛ والقضاة، بحكم تكوينهم الأكاديمي والأصلي وخبرتهم المهنية، يمثلون أفضل خبراء يمكن الاستعانة بهم لإصلاح القطاع الذي يمثلون حجر الزاوية فيه ويتأثرون مباشرة في سمعتهم وفي معاشهم وفي ظروف عملهم بصلاحه وفساده. وكتاب الضبط الذين يساعدونهم لا يقلون معرفة وخبرة بمكامن النقص واحتياجات الإصلاح.
إن أي إرادة جادة لإصلاح العدالة، يجب أن تنطلق مباشرة في التركيز على تصور الحلول وعدم تضييع الوقت في البحث عن المسؤول على طريقة "كلما دخلت أمة لعنت أختها". ولا شك أن اختيار النظام الجديد لتكنوقراط وخبير من أكثر العارفين بإشكاليات العدالة لقيادة وزارة العدل وتنفيذ مقتضيات برنامج الحكومة المتعلقة بالعدالة، والتي نأمل أن تستوعب مخلتلف جوانب إصلاح القطاع، يؤشر إيجابا على بداية مسار جديد، يبدأ بإصلاح الإطار القانوني ومواجهة العجز في الإمكانيات المادية والبشرية واستعادة القضاء هيبته ومكانته، ولا ينتهي إلا بإقامة سلطة قضائية مستقلة توزع العدل وتحتل مكانها الطبيعي في دولة القانون والمؤسسات