حكامة سيئة، تبذير ، نهب ثروات، ثراء غير مشروع ، صفقات مشبوهة، أسماء تثير الاستغراب تظهر في الواجهة، لأشخاص يعملون لحساب آخرين، تلك هي العبارات السائدة اليوم في الخطاب السياسي. فهل يعبر هذا عن حراك سياسي؟ وهل حان الوقت أخيرًا لوضع حلول جذرية لحصيلة عشرية مثيرة للجدل؟ أم أننا ما زلنا تحت سيطرة تحفظنا الذي يجعلنا نتراجع في كل مرة عن اجتثاث أصل الداء؟
مما لا شك فيه أنه لا يمكن تحقيق أي تطور أو تقدم أو عدالة اجتماعية في ظل حكامة سيئة. فهذه الآفة مسؤولة عن حالة التخلف والفقر التي يعاني منها كثير من البلدان التي لم تعد صرخات استغاثتها تؤثر في العالم، حيث لم تعد سياسة اليد الممدودة مجدية في عالم أصبح يتجه نحو تبني سياسة الانعزالية.
إن سياسة "أمريكا أولاً" التي يتبعها ترامب، أصبحت شعارا مشتركا على نطاق واسع بين الدول العظمى مع أنهم، من باب اللياقة، لا يظهرون ذلك علنا. إننا نشهد فتورا ملحوظًا في علاقات التضامن الدولي، وتفكك الكتل الكبرى، وتفشي الطائفية والتعصب حتى في دول كانت فيما مضى متشبعة بالمثل العليا وحب الخير للناس أجمعين.
ولهذا، فقد أصبحت الصرامة في التسيير قضية وجود. وكل تصرف يتعارض مع ذلك ستكون له عواقب وخيمة. وما أكثر عدد الحكام الذين قادوا دولهم إلى الإفلاس بسبب تقصيرهم وتهاونهم، ما أدى إلى ارتهان سيادة بلدانهم للخارج.
من الواضح أن العالم يمر بوضع صعب، وأنّ زمن التنازلات والمحاباة قد ولّى. إن الفساد ظاهرة استمرت لفترة طويلة، وقد حان الوقت للقضاء عليها، فهل نحن قادرون على القيام بهذه المهمة؟
الجواب بنعم. يكفي لتحقيق ذلك، تحفيز وتعزيز السلطة الأخلاقية لهيئات الرقابة: الجمعية الوطنية والمفتشية العامة، مع استرشاد الهيئتين بتنبيهات إعلام يقظ ومسؤول.
لتتأخر طبعًا ردة فعل شبكات المفسدين، ونحن على علم مسبق بأهم المحاور التي سيركزون عليها، ومنها:
- نشر خطاب يمتدح الطاعة وتقبل الوضع الراهن، أيّ وضع راهن، بحجة تفادي تأجيج التوترات وإيقاظ الفتنة النائمة.
- لعب دور الضحية والمطالبة بمطاردة المفسدين وتصفية محددة الأهداف للحسابات.
- تعبئة الحساسيات القبلية والجهوية وضرب بعضها ببعض، والتخندق وراء انقساماتها.
- أخيرا، ومحاولة منهم للتهرب من تحمل أي مسؤولية، سيشنون حملة تشهير واسعة النطاق ضد جميع الفاعلين السياسيين من أجل طمس الحقائق وزرع الارتباك في النفوس وكأنهم يقولون، إن البلوى قد عمّت، ولا أحد جدير بمحاسبة الآخر.
ليست هذه المناورات إلا محاولات تضليل من أجل زعزعة إرادة صناع القرار السياسي، بهدف حملهم على الرجوع إلى النهج المؤسف المتمثل في مقولة: لنقلب صفحة الماضي ونبدأ من الصفر. ولن يؤدي هذا التكرار المستمر وهذا التخبط الذي لا نهاية له إلا إلى الدخول حتما في ورطة متفاقمة.
لنفهم جيدا أننا باستمرارنا في السماح للمفسدين بتولي الشأن العام، سنصل في نهاية الأمر إلى إفساد القيم المحركة للمجتمع. والله يعلم أن هذه القيم الراسخة منذ القدم ما زالت قائمة، ولا تخطئها أعين من يميزون بين الخير والشر.
ولمزيد من التوضيح لما ذهبت إليه، سأذكر هنا بعض الأمثلة:
الآن، وبعد أن أزاح الزمن الستار عن الجانب الخفي لرؤسائنا السابقين،نعلم أنهم جميعا تقريبًا قد تركوا السلطة في الوضع المادي نفسه الذي كانوا فيه عند توليها. حيث عاش المرحوم المختار ولد داداه في المنفى معتمدا فقط على التضامن الخيّر لأصدقائه الأفارقة.
وعاد محمد خونا ولد هيدالة بتواضع إلى أسلوب حياة البدو الرحل في الصحراء.
وخرج معاوية من السلطة دون أي ثروة مثيرة للاشتباه. وقد احتاج في مرحلة معينة إلى الاستعانة بدعم أبناء عمومته المقربين، قبل أن يحظى بضيافة كريمة، دون شك، من أميرقطر.
ويشيع هذا النوع من الاستقامة البعيدة من الشبهات بين الأطر، فمازلنا نتذكر الإطار الذي رفض الترشح لمنصب نائب باقتراح من الحزب الجمهوري الديموقراطي الاجتماعي (PRDS)،بعد سنوات من توليه إدارة مفوضية الأمن الغذائي (C.S.A)، بسبب عدم قدرته على تمويل حملته.
وكم شاهدنا من أطر شغلوا مناصب وزارية عديدة عادوا بدون وسائل ليقاسموا أساتذة التعليم العالي خشونة حياتهم.
ما زالت إذن بذرة الخير موجودة، ويكفي أن نعمل على صيانتها وتعهدها بالرعاية ونزع الأعشاب الضارة من حولها.
في الختام، وبطريقة مختصرة، نقول إن العشرية المنصرمة قد اتسمت بحملة لا هوادة فيها ضد مرتكبي الاختلاس أو خيانة الأمانة لدى الموظفين، ومع ذلك فإن تلك الحملة لم تتجاوز معاقبة مرتكبي الاختلاسات الصغيرة أو المتوسطة وعزلهم عن وظائفهم.
وحتى لا تتسم الحملة بالانتقائية، يجب أن تمتد لتشمل مجالات لم يجر فيها البحث والتفتيش، حيث يسود الاعتقاد بوجود الأموال الطائلة والعمليات الكبيرة.
عبد الرحمان سيدي حمود
ترجمة: سعدى إسلمو