يوم الأحد الرابع عشر حزيران يونيو 2020 ،حيث يجثم غبار أصفر على أنفاس
مدينة نواكشوط وتعمد أشعة شمس صيفية حارقة رفقة جائحة كوفيد 19 ، إلى
إرغام ساكنة العاصمة على البقاء في البيوت.
الوقت يشير إلى بداية الزوال ، أتصفح هاتفي الجوال ، أدلف عبره ولبرهة
إلى مجموعات الواتساب التي اشترك بها ..
إلى هنا كل شيء عادي ، غير أن وجود نشاط مكثف في مجموعة قطاع الأخبار
TVM ) )وهي مجموعة مهنية خاصة بعمال قطاع الأخبار بالتلفزة الموريتانية ،
لفت انتباهي ، خاصة وأننا في نهاية الأسبوع ، وهي فترة في العادة تكون
فيها المجموعة أقل نشاطا .
الحالة هذه دفعتني إلى دخول المجموعة ، لأكتشف الفاجعة و أصاب بالصاعقة
من هول المشهد وفظاعة الخبر :
(أخي و زميلي محمد ولد إبراهيم ولد عالي في ذمة الله ..)
صمت كل شيء في جسدي و تسمرت قدماي لبعض الوقت... أحسست بقشعريرة صارخة
تتسلل إلى عروقي لتقتلعني من حالة الصمت الجنائزي ..
أخذت أتحسس أنفاسي المتقطعة ، أبحث عن منديل أو خرقة ثوب أستر بها عورة
دموعي المنهمرة دون استئذان .. دموعي المنسابة زخات ساخنة تتساقط من قلب
يعتصره ألم الخبر الصاعق و حسرة اللحظة الحزينة.
ورغم إيماني الكبير بأن الموت حق والجنة حق والنار حق ، قال تعالى :
( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ
الْغُرُورِ )
وقال جل في علاه في نفس سورة "آل عمران ": (وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ
تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا
مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ
يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ )
رغم استحضاري لكل هذا، فإنني وجدت نفسي رهين العَبَرات المتدافعة في
منحدر الغياب الكبير، أصارع في لحظات عسيرة ، أسى اللوعة وجبروت الموت
ومفاجئة اختطاف أحد الرفقاء الصلحاء الفضلاء النادرين :
في ذِمَّةِ اللهِ ما ألقَى وما أجِدُ أهذِهِ صَخرةٌ أمْ هذِه كبِدُ
قدْ يقتُلُ الحُزنُ مَنْ أحبابهُ بَعُدوا عنه فكيفَ بمنْ أحبابُهُ فُقِدوا
رحلت رفيقي الغالي وعندما يرحل العظماء تنقص الأرض من أطرافها، وتنطفئ
كواكب درية من النور كانت ترسل إشعاع خيرها إلى ربوع العالمين .
رحلت على حين غرة وفي غفلة منا :
كأنَّ محَاسِنَ الدُّنيا سَرَابٌ وأيُّ يَدٍ تَناوَلَتِ السّرابَا
رحلت وقد كنا ننتظر عودتك منتصرا على الداء ، مفعما بعنفوان الشباب و قوة
الإيمان و التشبث بالحياة ..
رحلت ولم نشبع منك ومن عطائك و إبداعك الذي تشهد عليه كل المخرجات
البصرية لقناة الموريتانية .
أنت أيها الشاب اليافع البشوش الصادق الظريف النظيف ، الذي عرفتك حين
طلعت علينا ذات يوم جميل من العام 2006 ويدك الحانية مشدودة بيد صنوك و
رفيق دربك وخليلك المهندس الشاب الدي ولد سيد باب .
كانت إطلالتك مميزة وبهية ، طلعت علينا مثلما يطلع البدر من ثانيات الوداع
،لتشكل بذلك أيقونة المقصورة الفنية ،رفقة الجيل الذهبي الذي دشن عهد
التقنيات الجديدة في التلفزة الموريتانية والذي سيشرف فيما بعد على
الانتقال من المونتاج التناظري ANALOGIE إلى المونتاج الرقمي Digital
رفقة الزملاء : إبراهيم سيديا الموجود حاليا بالولايات المتحدة الأمريكية
، يحظيه ولد عبدي ، شيخنا ولد عثمان ، محمد فال الذي التحق فيما بعد
بسلك التعليم العالي إضافة إلى المطور التقني حينها الفرنسي سيرج .
كان ذاك الشاب الخلوق الودود القادم للتو من المعاهد العليا للدراسات
التكنولوجية (ISET) في تونس ، متقنا لفنون التركيب الرقمي و Graphic
Designer فن ( تصاميم الاتصالات البصرية) والإخراج ويملك رؤية فنية
فريدة ومبتكرة ،كان لها الأثر الكبير على النقلة التكنولوجية التي عرفتها
التلفزة في تلك الفترة حيث انعكست بشكل واضح على أداء الزملاء الصحفيين الشباب
في خلية الإنتاج حينها ( إسحاق ولد المختار فك الله آسره ، عبد الله
سيديا ، محمد ولد حي ، محمد يحي حمود ، مغلاه بنت الليلي ...الخ ) ،خاصة
في النشرات الإخبارية و البرامج التفاعلية المستحدثة ، والتي كانت بصمة
محمد ولد عالي جلية عليها .
ولكونه يمتلك حسا فنيا رفيع يضاف إلى عمله التطوعي في المجال الإنساني،
حيث شغل وحتى وفاته اليوم ، منصب أمين المالية للجمعية الموريتانية لدعم
مرضى السرطان "شفاء " ، فقد استطاع أن يمنح التلفزة الموريتانية واحدا من
أنجح وأشهر البرامج التلفزيونية في موريتانيا وهو برنامج " ويؤثرون على
أنفسهم " الذي يعود الفضل فيه إلى الراحل الذي كان صاحب فكرته ومخرجه
ومصوره ولم يقبل أن يتقاضى عليه أوقية ،وكان كما حدثني بذلك ، يعتبره
عملا خالصا لوجه الله لايريد عليه جزاء ولا شكورا .
وحين تم توقيف عرض هذا البرنامج قبل رمضان الأخير، قام محمد ولد عالي
بمواصلة الجهد على مواقع التواصل الاجتماعي، وكما قال لي – أسكنه
الله فسيح الجنان - :"لن أتخلى عن المحتاجين و المتعففين وأصحاب الفاقة
والعاهة و العوز
والداء في هذا الشهر الذي تتضاعف فيه الأعمال " مضيفا :
" أعمال البر لا تتوقف و لايمكن تعطيلها " .
وقد أعد الراحل الكثير من الملفات والوثائقيات وشارك في أكثر من رحلة
إنتاجية وإخبارية وأشرف لسنوات على إعداد البرنامج الشهير " الشرطة في
خدمة الشعب ".
كان محمد ولد عالي الرجل الذي يرتاح له الجميع و يطمأن له الصحفيون خاصة
في قسم المونتاج الإخباري حين تبلغ الأمور حد الذروة و تكون النشرة
الإخبارية ضاغطة ،تجد محمد ولد عالي بابتسامته و دماثته و استعداده و
إتقانه وتفانيه في العمل ،حاضرا كرجل الإطفاء ، لتسوية جميع الأمور
الفنية مهما كان تعقيدها .
وخلال مختلف السنوات التي قضاها الفقيد في التلفزة وحتى اليوم الذي أقعده
المرض ، ظل مشواره مسطرا بالكثير من التقدير و الاحترام والإبداع و
التميز ، وكانت أياديه البيضاء نظيفة سخية و لسانه العفيف رطبا بالذكر و
المذاكرة و النصيحة .
لم يسجل عليه في أي يوم دخوله في خلاف مع أي من زملائه و لم تنقل عنه
وشاية ولم يتأخر أو يتوان عن عون أو مساعدة أي كان .
لم تكن تحتاج وأنت بجواره إلى أن تعرف من أي القبائل ولا إلى أي جهات هذه
البلاد ينتمي ،لأنه ببساطة كان للجميع .
كان - رحمه الله - مواظبا على أداء الصلاة في المسجد ، مستقيما في
معاملاته ورعا في قوله وفعله ، برا بوالديه ، منفقا في السبيل ولو كانت
به خصاصة ، يخشى الله ويرعاه في السر و العلن ، أعد العدة لهذا اليوم
الذي لامفر منه ،قال تعالى :( وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ
تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ ) .
أخي الغالي :
يا زاهداً عرف الحياة فما هوى في المغريات ولا سباه المظهر
نم في جنان الخلد يا ذا التقى وانعم بظل وارف لا يحسر
إن عزاءنا اليوم في فقدك هو وفات سيد الخلق محمد بن عبد الله صلى الله
عليه وسلم الذي قالت عائشة فيه :
( فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم باباً بينه وبين الناس في مرض وفاته
صلى الله عليه وسلم، فإذا الناس يصلون وراء أبي بكر ، فحمد الله على ما
رأى من حسن حالهم، ورجا أن يخلفه الله فيهم، فقال:
يا أيها الناس! أيما أحد من الناس -أو من المؤمنين- أصيب بمصيبة فليتعز
بمصيبته بي عن المصيبة التي تصيبه بغيري، فإن أحداً من أمتي لن يصاب
بمصيبة بعدي أشد عليه من مصيبتي) رواه ابن ماجه
قال الشاعر :
أصبر لكل مصيبة وتجلد واعلم بأن المرء غير مخلد
فإذا ذكرت مصيبة تسلو بها فاذكر مصابك بالنبي محمد
وعزائي فيك أيها الكريم ، أن العظماء لا يموتون ، إذ تبقى أعمالهم و
شمائلهم و خصالهم ومناقبهم وما قدموا شجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها في
السماء :
و خیر خصال المرء بعد مماته صنائع معروف وعرفان شاكر
ونجوى دعاء لا یكف وجیبه لرب عفو للعباد وغافر
و:
المرء يعرف بالأنام بفعله وخصائل المرء الكريم كأصله
نعم ، لم تمت وشواهد فعلك وجميل صنيعك منقوشة في قلوب زملائك و معارفك و
أفراد عائلتك و في وجوه المرضى الذين كنت تحمل إليهم علبة دواء آو سلة
غذاء أو ظرفا مرسلا من أصحاب الخير وصانعي المعروف .
لعمرك ما الرزیة فقد مال ولا شاة تموت ولا بعیر
ولكن الرزیة فقد فذ یموت بموته خلق كثیر
إن القلب ليحزن وإن العين لتدمع ولا نقول إلا ما يرضي ربنا وإنا على
فراقك يا محمد عالي لمحزونون .
مات قوم وما ماتت مكارمهم وعاش قوم وهم في الناس أموات
اللهم ارض عنه وأغفر له وأرحمه وأجعل قبره روضة من رياض الجنة وأجعله في
الفردوس الأعلى من الجنة.
اللهم تغمد عبدك محمد عالي عندك برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم إننا نشهد بأنه صاحب فضل وبر وإحسان وخير، وأنت تعلم السر وأخفى،
وأنت بصير بالعباد، لا نزكي عليك أحداً، أنت حسيبه وحسيبنا وحسيب كل أحد.
اللهم أرفع منزلته في أعلى عليين، وأخلفه في عقبه في الغابرين.
اللهم اجبر مصابنا فيه، واجعلنا وإياه وجميع المسلمين مع نبينا محمد صلى
الله عليه وسلم في أعلى جنان الخلد .
لا نقول إلا ما يرضيك ربنا : إنا لله وإنا إليه راجعون.
عبدو ولد احمين سالم / صحفي بقناة الموريتانية