بداية إنصافا للمفاوض الموريتاني، أن ما سأقدمه مبني فقط على ما تم الاعلان عنه من معلومات، ففي العادة مثل هذه الملفات الحساس تبقى فيه بعض المعطيات مستترة بسبب تلك الحساسية و لا يظهر منه سوى نتائجه فلا علم لنا بكل نقاط الضعف التي يترتب عليها التفاوض بالنسبة للطرف الموريتاني خاصة منها ما ورثه نظام الغزواني عن نظام ولد عبد العزيز، فتلك نعلم منها فقط الوزير و بعض الضرائب و مستحقات المحروقات و قليل من المعلومات المرتبطة أساسا بالقانون الناظم للمجال و أيضا اكراهات الاستثمار الاجنبي و سمعة الدولة لدى المستثرين الأجانب.
قبل أن أدخل في التفاصيل و اقدم المثال مساوئ مسار التفاوض الذي أجراه المفاوضون الموريتانيون مع شركة «كينروس» أود في بالبداية أن أقدم الاسباب التي من خلالها سيعرف المتلقي ما إذا كان التفاوض جيدا ام سيئا .
تعتمد تقنيات التفاوض خاصة في مجال المال و الأعمال على عدة معايير يجب أن تؤخذ بعين الاعتبار :
المعيار الأول : مجال التفاوض و نقاطه، الايجابي منها و السلبي و المريح و الغير المريح.
المعيار الثاني : البيئة القانونية و الادارية لمجال التفاوض و التكتيكات و المساحات التي يمكن التحرك فيها للضغط أكثر على المستثمر المفاوض.
المعيار الثالث : هو المخاطر المترتبة على فشل المفاوضات و انعكاساتها على ملفات أخرى لدى نفس المفاوض في الطرف الآخر أو لدى مماثلين له، إما متربصين أو اصحاب مشاريع قائمة من نفس الفئة (سمعة الدولة في مجال الاستثمار).
المعيار الرابع : هو معرفة قدرة المفاوض في الطرف الآخر و ما يمكن أن يقدمه بحسب معطيات يتم التحصل عليه سواء بطرق مباشرة أو غير مباشرة عن وضعيته و سوابقه في التفاوض مع جهات اخرى (تلك المعطيات هي مربط الفرص و فيها مخاطر كبيرة جدا إذا كانت ناقصة أو معتمدة على معلومات مغلوطة)
المعيار الخامس : هو نقاط ضعف المفاوض في الطرف الثاني و سوابقه في المجال على المستوى المحلي
المعيار السادس : هو مستوى قوة المفاوض في الطرف الثاني
المعيار السابع : هو الجو العام الذي يجري فيه التفاوض بمعنى التأثيرات أو المطبات أو حتى الايجابيات الملاحظة في سوق العمل الخاص بمجال التفاوض.
المعيار الثامن و الأخير : هو المخاطر الناجمة عن تقديم عرض بسقف معين
بعد سرد هذه المعايير دعوني أقوم بإسقاطها على قضية «كينروس»،
المعيار الأول : لا يختلف اثنان على أهمية الذهب و قيمته التي لا تضاهيها قيمة أي معدن آخر بسبب ما يوفره من ملاذ آمن للاستثمار و حماية لرؤوس الأموال من الضياع.
و من النقاط الإيجابية لذلك أنه يمكن الاستفادة أكثر من هذا المعدن لترغيب «كينروس» و الضغط عليها من أجل جعلها تستشعر مدى خطر الخسارة، مع التذكير الدائم بالامتيازات التي سيكسبها النظام على الصعيد السياسي و الاقتصادي في حالة سقطت المفاوضات بسبب تعنت المفاوض، تلك أمور ضرورية جدا لهدم الحالة النفسية للمفاوض و جعله يستشعر مخاطر الوقوع في فخ عدم التنازل عما يمكن التنازل عنه.
المعيار الثاني : بالنسبة للبيئة القانونية فإن كينروس تخالف عدة نظم محلية بحسب القانون الموريتاني و بالتالي فهي في موقف حرج نوعا ما، خاصة أنها أيضا أمام نظام جديد قد لا يرضخ لمطالبها و قد لا يغفل عن اخطائها.
و أيضا يمكن القول أن وجود نظام جديد يترتب عليه بطبيعة الحال وجود مسؤولين جدد يقوٌمون الأمور بشكل أفضل لصالح بلدهم أكثر من تقويم من سبقهم لو تم استبدال المسؤولين السابقين بمسؤولين لا تربطهم صلات سابقة بالشركة و ليسوا على علاقة وطيدة مع ممثليها، و هي نقطة من الخطأ احتسابها سلبية و العمل بعكسها، بل على العكس من ذلك تماما فإن استجلاب موظفين جدد قادرين على إدارة الملفات بشكل شفاف و اطلاع النظام على مكامن الخلل و المساهمة معه في الرفع من مستوى التفاوض و موقع الدولة كمفاوض أمام الطرف الآخر كينروس" يعتبر تكتيكا إيجابيا لو تم استغلاله بالشكل الحسن.
من المساحات الجيدة التي يمكن للدولة التحرك فيها هو خلق انطباع جديد لدى المفاوض في الطرف الآخر أنه يتعامل مع مفاوض لديه فلسفة جديدة أكثر ميولا لكسب المزيد من النقاط خاصة أنه جديد، و بالتالي سيجعل المفاوض في الطرف الثاني يأخذ بعين الاعتبار تلك النقاط ليحسن من مقترحاته و يخفض من سقف مطالبه.
المعيار الثالث : بالنسبة لحالة «كينروس» يمكن القول أن المخاطر الناجمة عن فشل المفاوضات قد تكون مكلفة بالنسبة للدولة الموريتانية و بالنسبة أيضا ل «كينروس»، إذا ما علمنا أنه هناك شركاء كثر من نفس فئة «كينروس» يراقبون عن كثف مسار المفاوضات و يخشون أن تفشل.
المعيار الرابع : من ناحية المعطيات فإن مثل شركة «كينروس» لا يمكن أن يخفي كافة المعلومات المرتبطة بنتائج مكاسبه في المرحلة الماضية و التي كانت في مجملها نتائج إيجابية على «كينروس»، و هو ما يتجسد في بقائها كل هذه المدة و دفعها لمبالغ كبيرة خارج إطار الاتفاق و هو ما أثبتته التحقيقات في الولايات المتحدة حول علاقة هذه الشركة مع مسؤولين موريتانيين (لا أحب ذكر الأسماء).
المعيار الخامس : بطبيعة الحال تهرب «كينروس» من دفع بعض الضرائب و تهربها من سداد مستحقات يعتبر من نقاط ضعفها و كذلك وجود منجم «كينروس» الجنوبي يعتبر نقطة ضعف أخرى، لأن رغبة المفاوض في الوصول إلى هدف معين تجعل من ذلك الهدف نقطة ضعف يمكن استغلالها للضغط عليه. تلك نقاط ضعف من خلالها يمكن أن يضغط عليه لقبول نتائج معينة دائما بطرق غير مباشرة (عدم التصريح بتلك النقاط فقط الاشارة إليها أو التلويح بها يمكن أن يهز ثقة المفاوض بالتالي يقبل بعرض أكبر خوفا من تبعات تلك السوابق).
المعيار السادس : في حالة «كينروس» كشركة عابرة للقارات لا شك أن قوة مثل هذه المؤسسات و مكانتها في المنظومة الاقتصادية العالمية و تشعب المساهمين فيها يجعلها طرفا قويا لديه نقاط قوة كثيرة ليس من السهل التغافل عنها.
و من هذا المنظور يجب أن نحضر جيدا للتفاوض معه و أن يكون المفاوض الموريتاني ذو صلاحيات واسعة و تصميم على الوصول إلى الأهداف المنوط به الوصول إليها أو حتى محاولة تخطيها إن أمكن.
المعيار السابع : لا يختلف اثنان أيضا أن الجو الحالي الذي بدأ فيه التفاوض كان جوا مريبا و مخاطره كبيرة جدا خاصة أن غالبية اقتصادات العالم تعرضت لنكسة كبيرة بسبب الاغلاق الذي أدى إليه فيروس كوفيد-19، و بالتالي كنروس كشركة دولية أذرعها ممتدة في كافة نواحي العالم، تتعرض لمخاطر كبيرة على مستوى السوق العالمي، و هواجس تلك المخاطر تتمثل في عدم الاستقرار المهدد به الكثير من دول العالم و منها بطبيعة الحال دول تتعامل معها كنروس بشكل مباشر و تستثمر فيها استثمارات ضخمة لا تختلف عن الاستثمار الضخم الموجود في موريتانيا، و بالتالي فمن الناحية الواقعية كينروس تخشى خسارة العلاقة مع الدولة الموريتانية لكن هل وظفت تلك العوامل لصالح اتفاق بامتيازات أكبر ؟
و رغم ذلك فإن الذهب لا محالة صعد سعره بشكل كبير أو قد يصعد في القريب العاجل بسبب خوف أصحاب رؤوس الأموال من ضياع أموالهم النقدية و العينية بسبب أزمة كورونا خاصة المستثمرين في دول هشة اقتصاديا و أمنيا و سياسيا او بها أنظمة دكتاتورية لا تكترث للمواثيق الدولية و بالتالي قد تقوم بخطوات خطيرة تكلف الشركات من فئة كينروس أموال طائلة قد لا تستعاد إلى الأبد.
المعيار الثامن : ماهي المخاطر الناجمة عن تقديم عرض بسقف معين ؟
بمفهوم أنه في حالة «كينروس» ما هو العرض الذي إذا قدمته موريتانيا يمكن أن يكون منصفا و يمكن أن تقبله «كينروس».
حسب وجهة نظري المتواضعة أن بنود الاتفاق هي ما يمكن ل «كينروس» أن تقبله بشكل تلقائي دون اللجوء لأي سلاح آخر من أسلحة التفاوض المذكورة أعلاه، لذلك هذه البنود التي تم الاتفاق عليها و كأنها كانت أقصى سقف يمكن الوصول إليه من طرف المفاوض الموريتاني و بوجهة نظري فإن هذا السقف ليس جيدا لأنه كان من الممكن أن نبدأ بسقف أعلى بالضعف من هذا السقف و نصل إلى ما بين هذا السقف المتحصل عليه اليوم و ضعفه.
لقد انتهيت من تلك المعايير بقي أن أشير إلى مكامن الخلل في التفاوض الذي حدث مع كينروس من منظور المفاوض الجيد :
سأبدأ بالخلل الأول في هذا التفاوض و هو وجود نفس الوزير الذي كان يدير الملف في فترة النظام السابق، هذه النقطة تغافل عنها الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني مع الأسف، فهذه نقطة ضعف و ليست نقطة قوة و لا تهز ثقة المفاوض في الطرف الآخر في نفسه.
فلو عمد الرئيس على تعيين وزير جديد لكان المفاوض في الطرف الثاني يخشى ضياع الامتيازات و لقبل التنازل عن بعضها في سبيل انقاذ البعض الآخر، خاصة لو علمنا بمساوئ «كينروس» و المخاطر البيئية التي تؤدي إليها عمليات الاستخراج و كذلك المخالفات الصريحة الممسوكة على «كينروس» في إطار مشروعها القديم «تازيازت».
و يمكنني القول هنا أن ورقة الضغط الاداري و فتح عيني المفاوض في الطرف الآخر على مفاوض غامض و جديد و اتاحة الفرصة لهذا المفاوض الجديد للقيام بنوع من الترهيب النفسي كان يمكن للدولة و الشعب معا أن يستفيدوا منه.
و حبذا لو استخدمت الدولة في هذه خدعة بسيطة جدا و فعالة، فلو أن الرئيس محمد ولد الشيخ الغزواني بحث عن أحد مختصي مجال النفط و التعدين من الذين يتقنون المجال عملا و تجربة و كان ذلك الشخص ميالا لمنافسين لكينروس لكانت الآن النتائج أفضل بكثير.
هناك نقطة أخرى غفل عنها المفاوض الموريتاني مع الأسف و هي مرتبطة بخلط الملفات، من الخطأ التفاوض مع كينروس على ملف «تازيازت» و ملف «تازيازت الجنوبية» في آن واحد، لأن الملفين ليسا مرتبطين قانونيا و ليسا أيضا في نفس المستوى من التنفيذ، فواحد مضى على العمل فيه 15 سنة من الاستغلال تقريبا و الثاني لم يدخل مرحلة الاستغلال بعد.
لذا خلط الملفين و التفاوض عليها في نفس التوقيت و الحصول على نتائج التفاوض حول الملفين في نفس الوقت أمر غاية في الغرابة. و الخشية كل الخشة أن يكون مقترح خلط الملفين جاء من الدولة الموريتانية.
و الخشية كل الخشية أيضا لو كان دمج الملف الثاني "«تازيازت الجنوبية» في التفاوض كان بطلب من «كينروس» و قبل بكل سهولة، لأنه كان الأولى أن يرفض التفاوض على الاثنين معا.
هنالك أيضا التوقيت و استثماره، ففي نظري أن الدولة تعجلت كثيرا في التفاوض مع «كينروس» و تعجلت أكثر في الوصول إلى نتائج خلال فترة شهور من التفاوض حول ملف استراتيجي و ضخم، قبل أن يحيط الرئيس بكل حيثياته. و يجد الفرصة لدراسته بتأني مع خبراء محايدين يمكنهم مساعدته على فهم جوانب منه بعيدة عن الجوانب التقليدية التي عادة يقدمها الموظف الحكومي في القطاع الوصي على الملف.
أتمنى أن لا أكون قد ظلمت النظام و الوزير و أن أكون قد أفدتكم بما قدمت.
ذ/ محمد فاضل الهادي / إطار مصرفي و خبير قضائي