واقع القضاءالموريتاني.. عام من الأمل...! فهل يتحقق المطلوب؟

شكل القضاء منذ نشأة الدولة الوطنية على هذه الأرض الحلقة الهشة والضعيفة حين تميز مع بداية قيام الدولة بنقص الكادر وهشاشة التأسيس  وتناقض التكوين وغياب المؤسسية...  
ومع تولي القوات المسلحة الحكم في   نهاية السبعينات ظل القضاء بما فيه المحاكم الخاصة أداة بيد اللجان العسكرية تستخدمها وفق أجنداتها  التصفوية وبرامجها الشعبوية، وفي منتصف الثمانينات تقريبا قامت السلطات بمراجعة جميع القوانين ومواءمتها مع الموروث الإسلامي فتمت أسلمة الترسانة القانونية الوطنية مدنية وجنائية، وتم توحيد القضاء بضم القضاء الأهلي التقليدي إلى القضاء المعاصر  وأصبحا يشكلان سلكا واحدا ويخضعان لنفس النظام وكانت هذه خطوة أولى نحو الاهتمام بالقضاء ومحاولة متواضعة لإصلاحه.
ومنذ بدأ المسار الديمقراطي في البلد مطلع التيسعينات بات القضاء خارج اهتمام الساسة الحاكمين رغم الدور المهم الذي يسند إليه في بعض الأوقات الحرجة ويقوم به على أحسن وجه.
ورغم الدور الكبير الذي أصبح القضاء يضطلع به من فض للنزاعات وردع  للمجرمين وطمأنة للمستثمرين، فضلا عن العائد الاقتصادي على الخزينة من مصاريف قضائية وغرامات جزائية وغير ذلك.. فقد عاش القضاة واقعا مزريا من  حيث تدني الرواتب والتهميش المؤسسي والتأديب التعسفي والتفتيش الانتقائي والتدخل والتأثير  غير الأخلاقي على قناعات القضاة، وأحيانا التوريط  المقصود من طرف السلطات الأمنية والتنفيذية في ملفات خطيرة ومعقدة غالبا يروح ضحيتها القضاة لأنهم كانوا حينئذ الحلقة الضعيفة.
ومع الأيام التشاورية بعد تغيير ٢٠٠٥ بدأ الرأي العام الوطني يفهم الدور المحوري  للقضاء وأهمية استقلاله في بناء دولة القانون وتجسيد الديمقراطية، فسايرت السلطات العسكرية الجديدة تلك المطالب ودشنت عهدا جديدا في هذا الاتجاه سعت فيه السلطات إلى إعادة النظر في المنظومة القضائية والترسانة القانونية الوطنية وشهدت تلك الحقبة تقدما ملحوظا على أكثر من صعيد، رغم التركيز على المنظومة والاهتمام بها على حساب العنصر البشري المتمثل  في القضاة الذين هم جوهر العملية؛ إذ لا إصلاح للقضاء قبل توفير ضمانات لاستقلاله، ولا استقلال للقضاء قبل تكوين القاضي وإغنائه الذي هو مطلب شرعي  تكرسه الشريعة الإ سلامية ومعيار جوهري ضمن المعايير الدولية لاستقلال القضاء، مع توفير مختلف وسائل العمل له وبناء سلطة وفصلها فصلا حقيقيا عن السلطتين التنفيذية والتشريعية.
وفي هذا الإطار بدأ النظام المدني  المنتخب  بعد المرحلة الانتقالية 2007م بمحاولة تذكر له فتشكر لتحسين ظروف القضاة  بعد إعلانه عن علاوة الحكم، وانعكس ذلك بشكل معتبر على آداء المؤسسة القضائية مع تعزيز ذلك أيضا بتوفير  بعض الوسائل الأخرى المهمة التي أسهمت في دعم ظروف العمل، إلا أنه مع الإطاحة المفاجئة بالنظام المدني المنتخب شهد هذا القطاع تراجعا ملحوظا حيث  تم فصل القضاة تعسفيا ودون إجراءات عادلة أو مجلس تأديبي قانوني مكتمل الشروط، لا لشيء سوى تجسيد القضاة لقناعاتهم المؤسسة قانونا!
كما تم جر القضاة بشكل مهين للكرامة إلى مجالس تأديبية بناء على بلاغات كاذبة وكيدية، فضلا عن تفتيش قناعات القضاة وتخلي الدولة عن حمايتهم أثناء ممارسة وظائفهم وفق القانون، والأمثلة  كثيرة حين هاجمت الغوغاء والدهماء والرعاع والسوقة أعضاء التشكلة المغاير باستئنافية نواذيبو بأبشع صورة وبتحريض من بعض الوعاظ وأئمة المساجد، كما لم تحرك الدولة ساكنا   حين أهينت كرامة القضاة من طرف   وكلاء أمن الطرق و بتعليمات سامية ونزولا عند رغبة عصابات الجريمة المنظمة المحمية  حين وضعت هواتف القضاة تحت التنصت وسجلت مكالماتهم الخاصة وانتهكت خصوصياتهم وأعراضهم حين تحولت عشر دورات للمجلس الأعلى للقضاء إلى محاكمات للقضاة بدل طرح مشكلات القضاء وحلها، بل وصل الأمر إلى فرض أجسام غريبة على هذا القطاع وخلايا مكلفة بتدمير  استقلاليته، فتم خرق النظام الأساسي للقضاء في كل الاتجاهات، وحُوّل القضاة بشكل تعسفي ولأسباب ضيقة ولحاجة يدفعها الهوى والهواية فقط حين منع القضاة من حقهم في علاوة الأعمال الخاصة التي استفاد منها جميع نظرائهم في السلطات الأخرى.
وفِي شهر دجمبر من سنة 2019م كان القضاة على موعد مع مجلس أعلى للقضاء استثنائي بالمقارنة مع غيره ترأسه الرئيس المنتخب وقد تميز بالإنصات الجيد لممثلي القضاة ورفض التحويلات حتى يتم تأسيسها قانونا، فضلا عن تصحيح الترقيات بحيث تم إنصاف جميع القضاة وتمت المصادقة على توصيات هامة تعزز كلها ضمانات استقلال القضاء في موريتانيا إلا أنه رغم  استبشار القضاة بهذه الإصلاحات الجوهرية التي أعطى رئيس المجلس الأعلى للقضاء تعليماته بتنفيذها ورغم مرور 8 أشهر على صدورها؛ لم نلمس حتى الآن إرادة جادة لدى وزير العدل ولا لدى الوزير الأول في تنفيذها، مع تفهمنا للظروف التي عاشت البلاد جرّاء جائحة كورونا، وقد كان القضاة في صدارة الذين تصدوا لهذه الجائحة تبرعا وتوعية والتزاما...
والْيَوْمَ آن لنا أن نذكّر بالواقع المزري الذي يعيشه القاضي والمؤسسة القضائية برمتها، وهو نتيجة طبيعية للتراكمات السابقة الذكر، في وقت ننتظر فيه بكل أمل وثقة أن يتم إنصاف القضاة والسلطة القضائية من خلال التجسيد الفعلي لمبدأ فصل السلطات وتوازنها المنصوص دستوريا.
ومما يزيد الطين بلة أن القاضي لا يتقاضى الْيَوْمَ إلا نصف راتبه، بسبب الفوائد والاقتطات البنكية المجحفة، وكذا الاقتطاعات المجحفة جدا من طرف صندوق التأمين الصحي الذي يصنف القاضي في الرتبة الأولى من حيث الاقتطاع والرتبة الثالثة من حيث الاستفادة من الخدمات.
كما أن رؤساء المحاكم ووكلاء الجمهورية لا يتمتعون بسكن لائق ولا سيارات خدمة مثل نظرائهم في الإدارة والأمن.
كما أنهم في أمس الحاجة إلى الحماية الأمنية وخصوصا في الداخل.
وكخلاصة فإن تنفيذ  توصيات المجلس الأعلى  للقضاء في دورته الأخيرة كفيل بوضع حد لهذا الواقع المعيق لاستقلال القضاء وآدائه، ولكنها توصيات بقي كثير منها حبرا على ورق.

القاضي الخليل بومن

الامين العام المساعد للاتحاد العربي للقضاة

أحد, 02/08/2020 - 00:59

إعلانات