ما بعد "الشكات" يستوجب التوقف

مضى وقت طويل لم أكتب فيه مقالا حول مجريات الاحداث و أهم ما يشغل الرأي العام الوطني.
اليوم بدا لي أنه من الضروري لا بل من الملح جدا أن أكتب عن رحلة المنقبين إلى الشكات، تلك المنطقة البعيدة جدا و القاسية جدا و المملة جدا، تلك المنطقة التي لا يمكن لشيء أن يتحمل بردها القارس و لا صيفها الحار جدا جدا.
اليوم و اليوم فقط بدأت حسب ما أرى و أتوقع من منظور تجربتي المهنية و فهمي العميق لمجالات العمل سواء في شقها التسيريي المرتبط بتسيير العمال أو في شقها النقابي المرتبط بدور و أهمية الحراك العمالي في الثورات حول العالم.
لقد برز لي من خلال الحجم الهائل من المشاركين في رحلة الشكات، أن هذه الرحلة لن تكون بلا فائدة على الممتهنين لمهنة التعدين الأهلي، كما فهمت بشكل عميق أن ممارسة الدولة لنوع من الوصاية سواء في شقه الادراي المرتبط بشركة معادن موريتانيا الوليدة أو شقه الأمني المرتبط بمسؤولية الجيش المباشرة عن تأمين المنقبين.
بطبيعة الحال من الصعب جدا استساغة خسائر بمليارات الاوقية لأناس ليس لهم ذنب في أن لا يجدوا مبتغاهم في منطقة الشكات، و هو ما يجعلنا أمام سيناريوهات خطيرة المآلات لو أن الرحلة كانت بدون جدوائية على أولئك الشباب الذين دفعوا أموالهم و ركبوا المخاطر في قلب الصحراء من أجل الحصول على ما يقتاتون به و ما يبنون به أحلامهم الصغيرة البسيطة اليسيرة جدا جدا، على من أوتيت له فرصة العمل و منح الوقت الكافي للتدرج الوظيفي في سلم الوظيفة العمومية أو القطاع الخاص.
هؤلاء الشباب يحلمون بأطنان من الذهب، و قد يجدونها و قد لا يجدونها، و في كل هاذين الاحتمالين يتولد احتمال لردة الفعل المصاحبة له.
فقد يصاب هؤلاء الشباب بالاحباط و ينقموا على الدولة و النظام الذي لم يقدم لهم أرضا اجري عليها مسح جيولوجي سمح بالتأكد من وجود الذهب بها.
و هذا الاحتمال بالضبط هو ما يهمني و ما يشغل بالي، و ما أريد أن أبين فيه النقاط التالية.
لكن قبل ذلك دعوني أستحضر معكم بعض ما يتصوره عامة الناس عن مثل هذه الحملات إلى مناطق بعينها على أن بها كنوزا من الذهب التي يمكن الحصول عليها بسهولة كبيرة.
حيث يظن البعض و أرجح ظنه كثيرا، أن الدولة وجدت في هذه الحملات فرصة لشغل أكبر كم من الشباب عن المطالبة بحقهم الطبيعي في التوظيف و الحصول على فرص عمل متاحة يسيرة، و هو ما يعتقده الكثير من أولياء أمور الشباب الكثير الموجود هناك في تلك المنطقة أزيد من 35 ألف شاب.
قرأت تدوينة لأحد الإخوة قال فيها إن الشباب الذي ذهب يخاطر بحياته و يعرضها للمشقة و مخاطر الصحراء بصيفها الحار و بردها القارس، لو توجه إلى ساحة الحرية لتمكن من اسقاط النظام "الفاسد" و المفسدين الذين يهيمنون على الحكم منذ 78 و لأستعاد الشعب أمواله المنهوبة من طرفهم و أوكل أمره لأشخاص أقل فسادا و أكثر حماسا لخدمة الوطن و المواطن.
الحقيقة أن ما قاله هذا المدون أمر صحيح دقيق، فلو قارنا العدد الذي أسقط مبارك و ذاك الذي أسقط زين العابدين بن أعل لوجدنا النسبة تزيد على 2 بالمائة بقليل من عدد سكان مصر و تونس. فما بالك بنسبة 8 بالمائة موجودة في الشكات الآن لو انضافت عليها منطقة الشامي و تازيازت لقوي الاحتمال كثيرا.
و بشكر الشامي الاحداث التي مرت بها مدينة الشامي و هي في ظاهرها بسبب رفض رسوم فرضتها الشركة الوليدة على المنقبين، لكنها في باطنها أحداث عمالية منجمية بامتياز انتصر فيها العمال على الدولة و النظام و القوة العمومية أيضا، حيث تراجعت الدولة عن قراراتها و هو ما رسخ في نفوس المنقبين في الشامي أن الاضراب يأتي بنتيجة.
و تلك بطبيعة الحال احدى مراحل النضج العمالي التي قد تصل مرحلة اللاعودة ذات يوم عندما يتكبد آلاف الشباب خسائر مادية و معنوية كبيرة جدا دون جدوى.
الثورة التي يمكن أن يصنعها المنقبون عن الذهب في الشكات ثورة محققة النجاح، و لكن ما الذي يجعل شباب الشكات يثور ما دامت أمامه فرصة الثراء من خلال هذه الرحلة مهما كانت مشقتها و مهما كانت ضآلة نسبة النجاح في هذه المهمة الصعبة ذات المخاطر الكبيرة على حياتهم سواء أثناء الحفر أو حتى بمواجهة الطبيعة القاسية لتلك المنطقة.
الطريق إلى الشكات بحسب ما فهمت مما يجري ليس سوى مرحلة من مراحل تشكل نواة العمال المنجميين و المنقبين الذين غالبا ما كان لهم الدور البارز في صناعة الثورات التي استطاعت تقويم اعوجاجات كثيرة في الحكم في عدة بلدان غربية و عربية و افريقية.
فبمثل الطريق إلى الشكات قد تتشكل قوة هائلة أكثر عددا مما يتصوره الناظر إلى الرقم 35 ألف، فوراء كل فرد من أولئك المنقبين أسرة أفرادها بمتوسط 7 أفراد لكل أسرة.
لن تكون الطريق إلى الشكات لا محالة كالطريق إلى تازيازت رغم أن تلك الرحلة ساهمت كثيرا في تغيير عقلية الشباب و نظرته للحياة بسبب قساوة تلك الأرض هناك.
و على كل لن يكون من السهل تحمل شاب يافع خسائر بأموال طائلة قد تكون مدخراته و بالتالي آخر ما يملك.
و على هذا الأساس فإنه من الضروري على الدولة أن تنتبه لمخاطر هذه الرحلة، فالعائدون بخيبة أمل كبيرة وقود لثورة قد تقلب الحال أسفله إلى أعلاه.
و لن يمنعها من ذلك سوى أن لا يعود الشباب منها خائب الظن في كل شيء غير واثق من أي شيء.
ذ/ محمد فاضل الهادي

ثلاثاء, 22/12/2020 - 12:37