نحنُ بلد غني، عبارة ترِد دائما على ألسنة أغلب الموريتانيين ويطرب عند سماعهامعظمهم.
من الأمور القليلة التي يجمع عليها الموريتانيون في أحاديثهم هي أن البلد يزخر بالكثير من الثروات والموارد الطبيعية الكفيلة بجعل المواطن يعيش حياة كريمةوينعم برغد العيش. لكن السؤال المطروح هو: هل وفرة الموارد الطبيعية من بينالمعايير التي على أساسها يصنف البلد بالغني؟وهل امتلاك هذه الموارد كفيل بخلق تنمية اقتصادية في ظل تفشي الفساد من جهة، والركون إلى الكسل والاتكالية من جهة ثانية؟
تتعدد المعايير التي على أساسها ترتَب قائمة البلدان الغنية. إلا أن مؤشري نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي ومستوى الناتج المحلي الإجمالي هما الأكثر تداولا من طرف الهيئات الدولية. وإن كان اعتماد أحد هذين المؤشرين كمعيار للتصنيف يظهر بعض البلدان على رأس قائمة الدول الغنية في حين يمنحها المؤشر الآخر رتبة متأخرة (سنة 2019، احتلتقطر رتبة ثالثأغنى دولة في العالم والأولى عربيا عند استخدام مؤشر نصيب الفرد من الدخل الوطني، بينما جاءت في المركز53 عالمياوالخامس عربيا في نفس السنة عند استخدام مؤشر إجماليالناتج المحلي الإجمالي) فإن موريتانيا ظلت تحافظ على تذيل هذه القائمة باتفاق المؤشرين (الرتبة 143حسب مؤشر نصيب الفرد من الدخل الوطني والمركز 148عند استخدام مؤشر إجمالي الناتج المحلي الإجمالي، حسببيانات البنك الدولي لعام 2019).
يتضح مما سبق أننا أقرب للفقر منه للغنى حسب المعايير الدولية، وأن المواطن حين يرددتلك العبارة المتداولة فإنه يستحضر لمعان ذهب انشيري، خامات حديد أزويرات، شواطئ المحيط الغنية بأجود أنواع السمك، وأراضي الضفة الخصبة ومياه النهر الوفيرةفقط ويتناسى عامل العنصر البشري والقدرات الإنتاجية للسكان ومستوياتتعليمهم.
إن وصف أي بلد بالغنى بات، وفقالمنطق الاقتصادي الحديث، يتعلق بالقدرة على الابتكار وتحويل هذا الابتكار إلى سلع وخدمات متنوعة تلبي الطلب المحلي وتسمح بتصدير فائض الإنتاج إلى الأسواق الدولية مقابل الحصول على النقد الأجنبي.
بمعنى أن مستوى الغنى الاقتصادي أصبحيرتبط،أولا،بالقدرة على الإنتاج،وثانيا بالريع الذي يمكن أن يشكل رافعة للاقتصاد كالموارد المعدنية، الثروة السمكية، المياه والأراضي الزراعية الخصبة، إن استغلت بالطريقة المثلى.
ووفقا لهذا المنطق، نشاهد اليوم الكثير من الدول وقد تخطت عتبة الغنى وهي لا تمتلك نفطا ولا حديدا ولا أي مورد طبيعي آخر، بينما تعاني بلدان أخرى الفقر والبؤس وهي تملك من الخيرات ما لو وزعتبعدالة على شعوبها لجنبتهم قسوة الجوع وألم الحرمان ووفرت لهم السكن اللائق والوضع الصحي السليم.
إن ما تعانيه موريتانيا من تردي الظروف المعيشية للسكان (31% من السكان يعيشون تحت خط الفقر حسب المسح الأخير حول الظروف المعيشية) يُرجعه المواطن البسيط، غالبا، إلى سوء التسيير واستشراء الفساد وتبديد عائدات البلد من ثروته السمكية وموارده المعدنية. وإن كان لهذا الرأي ما يبرره إلا أنالعامل الأبرز في إفقار الشعوب يبقى تدني إنتاجية العمل (أي الناتج الذي يحققه العامل).
وقد ورد في النسخة التاسعة من المؤشرات الرئيسية لسوق العملالتي وضعتها منظمة العمل الدوليةسنة2015أن العامل العاديفي البلدان ذات الدخل المرتفعيُنتج سنوياً 62 ضعف ما ينتجه نظيره في البلدان ذات الدخل المنخفض (من بينها موريتانيا) وعشرة أضعاف ما ينتجه نظيره في البلدان ذات الدخل المتوسط.
دراسة أخرى أظهرت تدني الإنتاجية في عموم العالم العربي، وقدرت أنها لا تتجاوز نصف ساعة يوميا على افتراض أن ساعات العمل ثماني ساعات. ولا شك أن هذه الدراسة ركزتعلى الوقت الذي يقضيه الموظف، أو العامل في مكان العمل، أي متى يحضر، ومتى ينصرف بغض النظر عما يفعل، هل يقضي الوقت في تصفح الإنترنت؟ أم في مقارعة كؤوس الشايوالحديث مع الزملاء؟ أم في الحديث على الهاتف في أمور ليس لها علاقة بالعمل؟
عامل آخر ينضاف لما سبق بالنسبة لموريتانيا يعمق تدنيمستويات إنتاجية العامل مقارنة بالدول الأخرى، وهو عزوف نسبة كبيرة من القوى الحية عن العمل في مهن يرونها مرهقة وحقيرة ولا تستجيب لطموحاتهم.ولذلك أصبحنانعتمد على العمالة الوافدة في العديد من القطاعات الاقتصادية (التعدين، الصيد البحري والقاري، البناء والأشغال العمومية،خدمات المطاعم والمقاهي، الأشغال اليدوية والأعمال المنزلية...)في حين يبقى الكثير من شبابنا وهو يعاني من البطالة ويكابد سوء الحالة المعيشية.
هذا العزوف عن العمل سيصاحبه، بلا شك، تراجع في مستويات الدخل الوطني الذيسينعكس سلبا على حالة انتشار الفقر وتردي الأوضاع المعيشية،نتيجة للعلاقة المترابطة والمتداخلة بين مستويات المعيشة المنخفضة والإنتاجية المنخفضة بشكل متبادلكما يقولالإقتصادي السويدي غونار ميردل.
وحول العلاقة بين رأس المال البشري والنمو الاقتصادي، أظهرت دراسات حديثة أنالأول (رأس المال البشري) يمكن أن يفسر ما بين 10% و30% من الفروق في متوسط الدخل الوطني للفرد بين بلدان العالم.
إنما يجعل موريتانيا، بحق وليس توهما، دولة غنية هو، من بين أمور أخرى، العمل على رفع إنتاجية العملبشكل يؤسس لبناء اقتصاد قوي تتلاشى فيه أسباب الفقر وتضمحل مظاهره، إلا أن ذلك يتطلب العمل على تحقيقي عدة أمور، من أبرزها:
- مراجعة المسلكيات المشينة والقضاء عليها، كازدراء بعض المهن واحتقار من يزاولها؛
- الرفع من المستوى التأهيلي والتعليمي للعامل وتطوير مهاراته، وبالتالي كسر الحلقة المفرغة التي يشكلها التعليم الضعيف والإنتاجية المتدنية والدخل المنخفض؛
- تنمية الوعي بالثقافة الإنتاجية والاهتمام بها ودعم كل ما من شأنه مساعدة الأفراد على الإنتاج وتحفيز المنتجين، وجعلمن تجاربهم الناجحة نماذج ملهمة؛
- نبذ الخمول والإتكالية والتخلي عن عقلية لَسْعَفَاتْ والتوزيع المجانيكنهج ووسيلة.
هذا طبعا بالإضافة الى تكثيف جهود محاربة الفساد، الذي مازال ينخر جسم الدولة والمجتمع ويستنزفطاقاتهم،واجتثاث المفسدين وقطع دابرهم.
ودون الأخذ بما سبق، ستظل دائرة الفقر في توسع والقول بأن موريتانيا بلد غني أقرب للوهم منه للحقيقة.