تستمد سلطة القضاء في موريتانيا قوتها من الدستور ومشروعيتها من الشعب وشرعيتها من الدين الاسلامي في آن واحد، فالدستور الموريتاتي أقر بأن سلطة القاضي في أحكامه وقراراته لا تخصع إلا لسيادة القانون، والدستور أكد على استقلالية السلطة القضائية وفصلها عن السلطات الأخرى. وحماية لهذا الفصل المطلوب لتوازن السلطات وتكامل أدوارها وتحديد مجال كل منها خدمة لاستقرار واطراد عمل مؤسسات النظام الدستورية، أناط مشرعنا الدستوري هذه المهمة برئيس الجمهورية فنصبه رئيسا للمجلس الأعلى لسلطة القضاء وذلك لكونه أفضل مركز وأقوى شخص يمكنه حماية هذه السلطة والعمل على تجسيد فصلها عن غيرها من السلطات وتمكينها من القيام بالمهام المسندة إليها دستوريا على أكمل وجه، دون عرقلة أو ضغط أو تدخل من نظيرتيها التشريعية والتنفيذية، وذلك بناء على أن مركز رئيس الجمهورية ومؤسسة الرئاسة في نظامنا الدستوري الرئاسي قادر بصلاحياته الواسعة وقوته المادية والمعنوية على حماية هذه السلطة وتوفير الظروف المناسبة لها لأداء عملها بوصفها سلطة خاصة ومهمة جدا وحساسة أنيط بها تطبيق القانون لحماية دماء الناس واموالهم وأعراضهم وحرياتهم وجميع حقوقهم المدنية والسياسية والاجتماعية والاقتصادية... بل وإنصاف الناس من السلطات الأخرى. والمشرع الدستوري، من خلال نصه على امتيازات السلطة القضائية، ينتظر من رئيس الجمهورية تجسيد هذه الحماية في الواقع من خلال توفير جميع الظروف المعنوية والمادية المؤدية إلى ذلك.
ولكي يتنزّل مضمون النص ومقصده إلى الواقع لا بد من إحداث التوازن المطلوب؛ بالنظر إلى ما تتوفر عليه السلطات الأخرى من وسائل مادية ومعنوية بقوة القانون، فالجماهير ضمن العقد الاجتماعي الذي تجسد في الدستور قد اشترطت على رئيس الجمهورية حماية هذه السلطة. ومقاصد المشرع الذي جسد هذه الإرادة في النص ليست عبثية لأن هذه السلطة -وفق ذات المنطق الدستوري- لها ذات الأهمية التي تتمتع بها السلطات الأخرى، بل ربما تكون أكثر أهمية؛ لأن مصلحة الشعب وإرادة الجماهير في الدساتير الديمقراطية الحديثة تتجه إلى كون السلطة القضائية تمثل صمام الأمان لاستقرار السلطات الأخرى في كل الظروف؛ أكانت عادية أم استثنائية... الأمر الذي جعل المشرع يحرص على فصلها عن السلطات الأخرى، ويفرض الحياد على أعضائها، ويعتمد اكتتابهم وتكوينهم بطريقة صارمة مختلفة عن تكوين السلطات الأخرى، لأن السلطة القضائية لن تكون قادرة على أداء المهمة المسندة إليها في الظروف العادية والاستثنائية إلا باكتساب مصداقية لدى الجماهير، حيث إن السلطات الأخرى المكلفة برعاية وتسيير مصالح هذه الجماهير غير قادرة واقعيا على القيام بهذه المهمة خارج وجود سلطة ذات مصداقية حقيقية وغير سياسية بالمعنى البراغماتي ستشكل مرجعية للحسم يعود إليها الجميع، سواء في ظل وجود السلطات الأخرى أو في غيابها المؤقت، أو غياب إحدى هذه السلطات لظروف معينة لا قدر الله؛ في حالة اللجوء إلى النظام الاستثنائي، وتلك ظروف قد تمر بها أي دولة من دول العالم الثالث، مما يبرز الدور المحوري بل الجوهري لسلطة القضاء، ويظهر جليا حدود قدرة هذه السلطة على امتصاص الصدمات بمختلف تجلياتها السياسية والأمنية والاجتماعية والاقتصادية، ويحدد مصداقية وحياد هذه السلطة أصلا مدى فعالية الدور المطلوب الذي أسند إليها. ومن هنا تظهر أهمية حمايتها المسندة إلى رئيس الجمهورية، والحكمة منها أصلا عند كتابة الدستور وخطورة عدم تجسيد هذه الحماية عند الحاجة إلى هذه السلطة في الظروف الاستثنائية، لا قدر الله. وهذا يعود بنا إلى مسألة مشروعية هذه السلطة وأهميتها وحاجتها إلى الاستقلال والفصل عن السلطات الأخرى، والتوازن فيما بينها بحكم أن سلطة القضاء لها نفس المشروعية الجماهرية المطلوبة اليوم في العالم الديمقراطي وزيادة على ذلك فإن لها سلطة روحية مستمدة من موروثنا الثقافي الإسلامي الذي يعطي للقاضي قيمة معنوية تتجاوز كل الحدود التي تحدد سلطة باقي موظفي الدولة الإسلامية ويمنحها نفس الاستقلالية المطلوبة من الناحية المالية وتجاه السلطة التنفيذية:
بدءا بإغناء القاضي من بيت مال المسلمين، مرورا بجعله مستقلا عن ممثل السلطة (الوالي وقتئذ)، ثم انتهاءً عند عدم عزل القاضي إلا لأسباب وجيهة، فسلطة القضاء حسب الدستور الموريتاني الذي يستمد نصه من الشريعة وبعض أحدث ما توصل إليه العالم الديمقراطي من نصوص دستورية تخدم مصالح الشعوب، ويؤسس هذا الدستور لمشروعية السلطة القضائية من خلال قانون نظامي يحدد شروط التقدم إلى منصب القضاء وشروط التكوين وطبيعته... وهذا القانون صادق عليه ممثلو الشعب.. فيكون كل من نجح في مسابقة القضاء مشمولا بهذه المشروعية التي لاتقل أهمية عن الانتخاب، لأن هذا القانون صودق عليه من قبل ممثلي الشعب، ويزيد على أعضاء السلطات الأخرى بكونه اكتتب وفق شروط صارمة ومحددة من حيث التكوين وتأدية القسم، وبالتالي يكون قادرا على خدمة الشعب من خلال خبرة محددة بخلاف البرلماني الذي لا يحدد له من الشروط سوى شهادة الجنسية والسن، دون أن يقسم على القيام على مصالح الجماهير بأمانة.
هذا من ناحية؛ ومن ناحية أخرى فإن القضاة يستمدون شرعيتهم الجماهرية أيضا من كون تسميتهم كقضاة بعد التكوين تتم من خلال مرسوم صادر عن رئيس الجمهورية بصفته رئيسا للمجلس الأعلى للقضاء.
ورئيس الجمهورية في نظامنا الدستوري هو الأقوى مشروعية؛ لانتخابه المباشر عن طريق جميع المواطنين ومن الناحية الشرعية هو ولي امر المسلمين الذي له الحق شرعا باسم الأمة ان يتنازل عن جزء من صلاحياته لمن يراه أهلا لتقلد القضاء فيسند إليه هذه الولاية وهو تقليد ضارب الجذور في تاريخ الدولة الإسلامية، و من هنا يستمد القاضي هذه المشرعية إضافة الى الشرعية الدينية، وتبقى حالة التربص -التي يمر بها بعد تسميته- ضمانة هامة للشعب، لا نظير لها في باقي السلطات، بحيث يوضع هذا القاضي المتعاقد مع الشعب في وضعية تجريب لخبرته وسلوكه وأخلاقه... وبعد نهاية فترة التربص للشعب أن يقول كلمته الأخيرة حول إسناد وظيفة القضاء للمعني أم لا، علما بأن القأضي أيضا -بعد تجاوز التقويم الشخصي ونهاية التكوين- يخضع لبحث أخلاقي تجريه السلطات المختصة، وهو الأمر الذي لا تتطلبه الوظائف في أغلب أعضاء السلطتين التنفيذية والتشريعية، وتلك ضماتة أخرى للجماهير للحصول على القاضي المطلوب بشكل شبه مثالي، كل هذا يدعونا إلى الحديث عن مدى تنزيل المقاصد الدستورية حول ضرورة فصل السلطات أو توازنها بالمفهوم الجديد الوارد في الدساتير الديمقراطية الحديثة والمحدثة، وهو الأدق من وجهة النظر هذه، بالقياس على إمكانية التطبيق ومردوده ، ومن الملاحظ في قضاءنا الموريتاني أن السلطة التنفيذية تتحكم في كل عصب القضاء، حيث يترأس رئيس الجمهورية المجلس الأعلى للقضاء ويعين رئيس المحكمة العليا ويقيله، وهو قاضي القضاة.
كما أن وزير العدل الذي هو عضو بارز في السلطة التنفيذية، هو كذلك المسؤول الثاني في المجلس الأعلى للقضاء ، فهو نائب رئيس المجلس.
ورغم عضوية المدعي العام والمفتش العام للمجلس الأعلى للقضاء، فإن كلا منهما يعينه وزير العدل.
وحتى العضو الممثل للبرلمان فإنن غالبا ما يكون تعيينه بناء على مقترح من الأغلبية البرلمانية التي هي خاضعة للسلطة التنفيذية كذلك، رغم أن العكس هو المفترض في الديمقراطيات المثالية.
ولا ينتخب القضاة لعضوية المجلس الأعلى للقضاء إلا ثلاثة اعضاء فقط، يمثلون أقلية غير قادرة على الدفاع عن مصالح القضاة.
ثم إن المدعي العام الذي يرأس النيابة على جميع التراب الوطني يخضع ويتبع مباشرة لوزير العدل الذي يبلغه تعليمات السلطة التتفيذية ويُلزم النيابة بتنفيذها ويصدر مذكرة يقيل بموجبها أعضاء النيابة أو يحولهم متى ما شاء.
كما أن رئيس القضاء الجالس، الذي هو رئيس المحكمة العليا يعينه رئيس الجمهورية تعيينا سياسيا في الغالب، ونادرا ما يكون من القضاة، مما يجعله ينفذ أجندات السلطة التتفيذية دون تردد، وبما أنه يترأس المجالس التأديبية فإنه يعقدها أيضا بناء على طلب من وزير العدل وتقرير من المفتشية العامة التي هي الأخرى تابعة لوزير العدل.
ولا يقتضر الأمر على ذلك بل إن الوزير يتخذ من انعقاد المجلس الأعلى فرصة لتحويل قضاة الحكم، بناء على ما تسميه السلطة التنفيذية: "ضرورة العمل"، والحق أنه في الغالب يخضع لضغط الساسة ووجهاء القبائل والمتنفذين عموما، وأحيانا يكون بناء على رغبة أحد المتقاضين أو المحامين والنساء الناشطات في الأحزاب والمنظمات، وفي بعض الأحيان يكون ذلك بناء على تقارير أمنية مغرضة.
أضف إلى ذلك أن ميزانية القضاء تسيرها السلطة التنفيذية ممثلة في وزارتي العدل والمالية، وأن تسخيرات القضاء تسيرها النيابة العامة التابعة لتلك السلطة، وأن القوانين الناظمة للقضاة والقضاء والمحاكم تعدها كذلك السلطة التنفيذية، ثن تصادق عليها أو لا تصادق عليها السلطة التشريعية التابعة في أغلبيتها والداعمة للسلطة التتفيذية الحاكمة.
فكيف سيكون التوازن بين السلطات؟
وكيف نفصل بعضها عن بعض؟
حين يأخذ رئيس الجمهورية بصرامة وحزم مسؤولياته الدستورية لحماية هذه السلطة من تغول السلطات الأخرى مع كل ما يتطلبه الأمر من مراجعة وتحيين للنصوص ذات العلاقة من أجل رسم آلية قانونية محددة وفق المعايير الدولية لاستقلال القضاء وقواعد المحاكمة العادلة لعصرنة المنظومة القضائية وجعلها منسجمة مع روح الدستور وكل المواثيق الدولية ذات الصلة، والتي صادقت عليها بلادنا...
حينئذ فقط يمكن الحديث عن توازن دستوري للسلطات في البلد أو فصل للسلطات.
القاضي الشيخ خليل بومن الأمين العام المساعد للاتحاد العربي للقضاة