عملية تنظيم الانتخابات ليست بالمسألة السهلة فهي من الناحية المالية تكلف أموالا طائلة لخزينة الدولة خاصة عندما يتعلق الأمر بالانتخابات البلدية والجهوية والتشريعية ، كما أن اعدادها من الناحية البشرية يتطلب كفاءات عالية قادرة من الناحية الثقافية و الفكرية على اقناع المتنافسين باحترام أدبيات و مسلكيات التنافس الشريف المعتمد على قيم الديمقراطية.
وقد يكون من العبث، وخاصة في الظروف الحالية التي نعيشها اليوم ويعيشها العالم بأسره والمتمثلة في تفشي جائحة كورونا و ما يستتبع ذلك من ضرورة تنظيم انتخابات تتماشى مع البروتوكول الصحي الصارم المعمول به لمنع تفشي الجائحة في الفترات الانتخابية، تنظيم انتخابات تتطلب تكاليف مالية باهظة عندما لا تكون محل اجماع بين الفرقاء السياسيين .
وعليه فإن الدعوة الموجهة من وزارة الداخلية الى الأحزاب السياسية والمجتمع المدني وكل الفاعلين السياسيين بخصوص التحضير للانتخابات البلدية والجهوية والتشريعية المقبلة والاجتماع الأولي الذي تلى ذلك فيهما رسالة مهمة تحمل في مضمونها جدية التفكير المعمق في المسار الديمقراطي داخل البلد الذي بدأ منذ فترة لم تعد بالقصير ة ولا يزال يتعثر، و يشكلان بداية على طريقة الإصلاح تبدأ بالتشاور حول الانتخابات التي تعتبر الطريقة الرسمية المعتمدة اليوم للتبادل السلمي على السلطة و تجسد التعبير عن الحق في المشاركة في الحياة السياسية الممنوح للأفراد والجماعات. وهي في النهاية حق من حقوق الإنسان الأساسية التي لا يجب التغاضي أو التناول عنه.
و تعتبر وزارة الداخلية الجهاز المؤمن والوصي على الانتخابات و من الطبيعي بل من المستساغ ان تأخذ مبادرة الدعوة الى التحضير المبكر لها لأن هذا يعد من صميم الالتزامات الأساسية والحقوق الانتخابية التي تضمن الدولة تحقيقها ، في أي بلد ديمقراطي ، للفاعليين السياسيين والناخبين على حد سواء.
و التجربة العملية للوازرة مع وزير ها الحالي في المرحلة الانتقالية التي عرفها البلد بتاريخ 3 اغسطس 2005 والى غاية 30 مارس 2007 تشكل مثالا يعتمد عليه في هذا المجال ، تمثل ذلك في تنظيم انتخابات من طرف وزارة الداخلية وبإشراف من اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات أكد المراقبون الدوليون والإقليميون و الوطنيون على شفافيتها وعلى نزاهتها. ، وأعترف الفاعلون في المشهد السياسي الوطني بتجرد وحياد السلطات الإدارية حينها .
لكن هذا ما كان ليحصل الا نتيجة لتشاور وطني لم يسبق له نظير حسب علمي في التاريخ السياسي للبلد الذي سبقها و قد تكون نفس التجربة لازالت حاضرة في تفكير من عرفوها وشاركوا في انتاجها.
ولاشك أن ترسيخ الديمقراطية وتطورها يحتاج حتما الى أدوات للقيام بذلك ومن تلك الأدوات بل من أهمها الأحزاب السياسية التي لابد أن تتميز بالفاعلية والنشاط يكون القصد منه ترسيخ الديمقراطية وحمايتها وليس من الغريب ان توجه تلك المبادرة الى الأحزاب السياسية والى الإعلام وكافة هيئات المجتمع المدني الأخرى.
و تأسيسا على ما سبق يكون التحرك الذي قامت به الوزارة مبرر ا وفي محله. فهي دعوة من أجل التنبيه الى ضرورة التنسيق والتشاور حول احترام الآجال الدستورية لهذه الاستحقاقات هذا من جهة ومن جهة أخرى دعوة الى اجراء انتخابات توافقية تستجيب لمعاير النزاهة والشفافية المطلوبة أخذة بعين الاعتبار خصوصية المرحلة .
صحيح أن الجو الذي نعيش فيه اليوم يختلف اختلافا جذريا عن ذلك الذي عشناه مع المجلس العسكري غداة الثالث من أغسطس 2005 وقتها كان الوضع متشنجا نتيجة للوضعية التي أنتجها الانقلاب العسكري أما اليوم. فالبلد يعيش لله الحمد في مناخ هادئ سياسيا وهو ما يشكل تربة صالحة لتصحيح الاختلالات التي شابت العملية الديمقراطية في البلد ، وفي اعتقادي أن الوسيلة المثلى لذلك لن تكون الا في تشاور يكون الغرض منه خلق الظروف الملاءمة لإقامة انتخابات حرة ونزيهة وشفافة تتمخض عنها مؤسسات ديمقراطية حقيقية.
هذا التشاور ينبغي مشاركة الطيف السياسي فيه سواء تعلق الأمر بالأحزاب السياسية أو هيئات المجتمع المدني و وهيئات مستقلة مشرفة أو منظمة للانتخابات و يجب أن يكون عنوانه نجاح العملية الانتخابية في البلد و عندما يكون هذا هو الهدف المعلن عنه والمرجو الوصول اليه فإن تحقيقه في نظري لا بد له من مجموعة من الشروط الأساسية التي يأتي في مقدمتها.
1 ـ اعداد قانون انتخابي يضمن اجراء انتخابات حرة وعادلة ، فنجاح أي مسلسل انتخابي مرهون في جزء كبير منه بوجود قانون انتخابي وإطار تشريعي ملائم لظروف هذا البلد أو ذلك . نعترف أنه ليس هناك نظام مثالي لكل الديمقراطيات فهي في هذا تتبع طرقا مختلفة وكل منها تنمو وتتطور حسب أوضاعها المختلفة وتستعمل آليات تتماشى مع ما يناسب المرحلة السياسية التي تمر بها ولاشك في أن أي قانون انتخابي ينبغي ان تتميز صياغة مقتضياته بالدقة و البساطة بشكل يسهل فهمه من قبل الناخبين ويمكن تطبيقه بشكل عادل وشفاف من طرف المنظمين للانتخابات وبالتالي يمكن نعته بالفاعلية. وفي هذا المضمار من المهم ان نلفت انتباه المعنيين بالتشاور حول العملية الانتخابية الى ضرورة التفكير في القوانين الانتخابية الحالية فإلى حد الساعة ليست هناك مدونة انتخابية وما هو موجود مجموعة من النصوص المتناثرة هنا وهناك وأغلبها تعود صياغته الى الفترات الاستثنائية التي عرفتها البلاد وخاصة مع بداية المسلسل الانتخابي 1986 وتحتاج الى تحيين ومراجعة فمثلا في المواد المتعلقة بالانتخابات البلدية ركز المشرع في المادتين 94 و 95 على روح ومعنى ومفهوم الناخب وهو بالإضافة الى بلوغه الأهلية القانونية ببلوغه 18 سنه فهو كذلك الشخص الذي يساهم في تنمية البلدية باعتباره مقيما فيها بشكل دائم و مستقر، لكن هذه المقتضيات يتم خرقها يشكل علني وعلى مرأى الجميع إذ درج الفاعلون السياسيون على القيام بنقل الأشخاص وتسجيلهم في أماكن لا يسكنون عادة فيها في تأثير واضح على خيار السكان المحليين مما يشكل نسفا لمعني وروح الانتخابات البلدية وخرقا واضحا للمادتين 94 و95 من قانون البلديات .
وفي مجال الاختصاص الممنوح في مجال الإحصاء واعداد اللائحة الانتخابية للجنة الإدارية والسلطات القضائية هناك ضبابية كبيرة وغموض وعدم وضوح في تلك الاختصاصات ومدى ربطها بالتطورات الحاصلة مؤخرا في الحالة المدنية والوثائق المؤمنة .
نفس الشيء يمكن ان يثار كذلك بشأن الطعون المقدمة بخصوص الانتخابات البلدية والتي تعد من اختصاص الغرفة الإدارية بالمحكمة العليا وتلك الممارسة أمام لجنة الانتخابات والسلطات الإدارية فهي من حيث الآجال لا تتطابق وفلسفة الانتخابات و الشيء نفسه ينطبق على الانتخابات التشريعية واختصاص المجلس الدستوري فالصلاحيات الممنوحة قد يكوون من شأنها تحييد العملية عن مجراها الطبيعي فإذا كان الهدف من الانتخابات هو السلم الأهلي فهذا مع هذه الإجراءات قد ينقلب لا قدر الله الى ضده وبالنسبة للانتخابات الرئاسية من العيب الإبقاء على نص المرسوم الصادر بتاريخ 2007 /045 الصادر بتاريخ 8 فبراير 2007 الذي يلغي ويحل محل بعض ترتيبات المادة 23 من المرسوم رقم 91 /140 الصادر بتاريخ 13 نوفمبر 1991 المحدد لإجراءات الحملة الانتخابية وعمليات التصويت في الانتخابات الرئاسية , هذا النص تم اعداده في ظروف خاصة ولم يعد هناك مبرر للإبقاء عليه, فالمادة 23 في النص القديم تنص على أن مقتضيات المواد 26 ، 27 ، 28 ، 29 ، 30 ، 31 ، 32 ، 33 ، 34، 35، و37 المتعلقة بالفرز والاقتراع في المرسوم رقم 86 /130 المحدد للحملة الانتخابية وعمليات التصويت تطبق على الانتخابات الرئاسية في حين يتكلم النص السابق عن الغاء بعض هذه المقتضيات فما هو الملغي في هذه المادة ؟ والأمثلة على ذلك كثيرة ولا يتسع المقام لذكرها.
ثانيا ـ لجنة انتخابية كاملة الاستقلالية والحرية وغير خاضعة لأي ضغط دلك ان التجارب العملية الحديثة للدول تؤكد على أنه من أجل شفافية الانتخابات وخلق الثقة بين الإدارة و الفاعلين السياسيين يجب انشاء هيئة للانتخابات تتصف بالاستقلالية و بالنزاهة والحياد والتجرد والمهنية ولن تكون لهذه الهيئة مصداقية الا بعد الحصول على ثقة الفاعليين السياسيين ومجموع الناخبين .
والمهنية والتجرد والحياد هي صفات ان تحققت في أي جهاز يمكن ان يعهد اليه الأشراف على الانتخابات او تنظيمها وفي هذا الصدد نذكر بأن وزارة الداخلية التي كانت تتهم بعدم الحياد في الانتخابات نظمت انتخابات نزيهة وشفافة و برهن أطرها في تلك الفترة بالاستماع الجيد لكل المعنين بالعملية الانتخابية وبشكل خاص اللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات التي أشرفت على الانتخابات كما ظل أطرها ملتزمون بالتجرد والحياد و المهنية ولم يغير في ذلك عملية الاصطفاف التي انزلق فيها بعض أعضاء الحكومة في ذلك الوقت و بشكل خاص قبيل الانتخابات الرئاسية.
وتوجد أجهزة انتخابية مختلفة في العالم قد تكون أجهزة دائمة وقد تكون مؤقتة وقد تكون وزارات حكومية مكلفة بإدارة الانتخابات أو لجان مؤقتة تنتهي صلاحيتها مع انتخابات معينة محلية .
والتجربة الأولية التي عرفتها البلاد هي لجنة مستقلة للانتخابات مؤقتة تم انشاؤها بالأمر لقانوني رقم 2005 /012 الصادر بتاريخ 14 /نوفمبر 2005 كان هدفها هو السهر على احترام القانون الانتخابي والتشاور مع الإدارة بأجراء التصحيحات الضرورية بما يضمن للناخبين والمترشحين الحرية في ممارسة حقوقهم وهي تشرف على عمليات انتخابية تنفذها وزارة الداخلية. و تم اختيار كافة افرادها بطريقة رعيت فيها النزاهة والحياد والمهنية وكانت محل اجماع وطني ودعمها كافة شركاء البلد الدوليون والإقليميون . هذه التجربة تم العدول عنها في انتخابات 2009 بحيث أصبحت لجنة الانتخابات لجنة سياسية بامتياز ومحاصصة بين الأحزاب في البلد. ومن اختصاصها التنظيم المادي للانتخابات
ثالثا ـ كذلك من الشروط الأساسية لنزاهة الانتخابات وجود مساطر إدارية تضمن للمواطن العادي والبسيط امكانيه ممارسة حقه الانتخابي بصورة حرة ونزيهة ودون ضغوط مادية او معنوية و بشكل مبسط و من أهم تبسيط المساطر هي تلك المتعلقة بالتصويت وبمكاتب التصويت من حيث قربها او بعدها من الناخب وطبيعة المكان الذي يوجد فيه ورؤساء المكاتب وكيفية تعينهم ... الخ . وفي الريف الموريتاني كثيرا ما يكون مكان مكتب التصويت محل خلاف بين الفاعلين السياسيين وما يمكن قوله أن أغلب المكاتب الموجودة تجب مراجعة أماكن وجودها لأن أغلبها أنشئ تلبية لرغبة جماعة معينة أو شخص متنفذ معين أصبح يخيل إليه ان المكتب ملكا له ومحسوبا عليه وبالتالي يتدخل ويضغط من أجل تعيين رئيس للمكتب وأعضائه يكونون في مصلحته. كذلك من المهم تقريب المكاتب من الناخبين ومراعاة الحد من التنقل من أجل التصويت في أماكن بعيدة عن بعض الناخبين.
في الانتخابات الهندية لسنة 1996 كان مجموع الناخبين 590 مليون ناخب يصوتون في 825000 مكتب للتصويت والمفارقة ان الناخب في هذا البلد لم يقطع مسافة تزيد على 2 كيلومتر من أجل القيام بواجبه الإنتخابي والسبب بسيط هو ان الناخب يصوت في المكتب الموجود في مقر سكناه . وعندنا نجد أن الشخص يقطن في نواكشوط لكن مكتب التصويت قد يكون في أبعد نقطة في شمال البلد أو شرقه والعكس صحيح مما يحتم نقل الأشخاص الى هذه المكاتب’
رابعا ـ ناخبون يعرفون حقوقهم وواجباتهم ويمارسونها بشكل كامل إن معرفة المواطن بأهمية الانتخابات وأثرها في افراز مجموعة من الأشخاص الذين يعملون لصالح الوطن بأمانة وصدق يشكل نوعا من الوعي الأساسي بأهمية الانتخابات ودورها في تنمية البلد وهو ما يساعد بشكل فعال على القضاء على بعض الممارسات غير المحمودة التي تقوض الديمقراطية وتجعل منها وسيلة لاختيار الأسوأ هذه الممارسات تتمثل في شراء الذمم والتأثيرات المادية و المعنوية غير المقبولة والتي على الرغم من معاقبتها من قبل القوانين الانتخابية تتم بعيدا عن أعين المراقب وحده ضمير الناخب هو الذي يمكن أن يقف أمامها ولهذا كانت الملاحظة التي قدمها المراقبون الدوليون على انتخابات المرحلة الانتقالية هي أنها انتخابات شفافة ونزيهة من حيث الشكل ولكنها تحتاج الى تحسين من حيث الموضوع في إشارة واضحة الى نقصان الوعي والإدراك بأهمية العملية عند الناخب الموريتاني في تلك الفترة .
د. عابدين ولد الخير عضو سابق باللجنة الوطنية المستقلة للانتخابات المنشأة بالأمر لقانوني رقم 2005 /012 الصادر بتاريخ 14 /نوفمبر 2005