
التمويه في استصدار الأحكام!
التمويه في مسألة التقاضي هو اللجوء إلى الغش لسلب أحد المتقاضين من كسب حقه.
في موريتانيا، يسمى مرتكب التحايل بالغش في الاحكام ب"البطل"، بينما يوصف في ظل المنظومات القانونية الأخرى بالنصاب على الأحكام. .
أما القانون الدولي فإنه يصف "بطلنا" "بالمتحايل على القانون" من خلال التغيير الإرادي لضابط الإسناد بجعل قاعدة تنازع الاختصاص تخدم مصلحته: محكمة النقضالفرنسية القرار بتاريخ 20/3/1985 رقم الطعن بالنقض 82ـ15. 033.
ولتتكون لدينا فكرة عن التحايل بهدف استصدار الأحكام، فإن أنجع وسيلة هي الحديث عن بعض الحالات التي تجسدت على أرض الواقع:
غداة الاستقلال، غادر مواطن سوري شديد الثراء دولة السنغال التي كان قد استوطنها وجاء إلى موريتانيا ليستثمر فيها ثروته استجابة لطلبات ملحة من الأب المؤسسالأستاذ المختار ولد داداه سعيا منه نحو إشراك جميع المستثمرين في بناء العاصمة التي كانت آنذاك عبارة عن كومة من الكثبان الرملية.
ارتبط المواطن السوري بأحد التجار الموريتانيين وكان الأول يلبى دون تحديد سقف طلبيات الثاني من أدوات البناء وسارت الأمور على ما يرام في البداية لكن الديون تراكمتعلى الموريتاني فاضطر السوري إلى مقاضاته لاسترجاع أمواله، ودامت المحاكمة سنوات وسنوات طويلة استخدم خلالها المدين أنواع الغش والحيل الإجرايية، وتمكن من مماطلة السوري قبل أن تتولى المحكمة ذلك بنفسها، جاعلة السوري هو المعتدي والموريتاني هو الضحية.
حُكم على السوري بتسديد الديون التي كان يُطالب بها الموريتاني، هذا هو استصدار الأحكام بالتحايل الذىأصبح مألوفا في موريتانيا، حتى أن من المواطنين من أصبحوا يتخذونه وسيلة من وسائل الإثراء.
يتجسد استصدار الاحكام بالتحايل في كونها تبت لصالح أشد الأطراف دهاء وأقلهم نزاهة على حساب الطرف الذىيمارس حقوقه حسب قواعد حسن النية كما تنص على ذلك المادة 3 من قانون الإجراءات المدنية والتجارية والإدارية بقولها: «كل شخص ملزم بممارسة حقوقه حسب قواعد حسن النية".
وكمثال آخر، كان مجهز سفن أجنبي يوفر الوقود في أعالي البحار لفاعل اقتصادي موريتاني ووجد نفسه ضحية لعملية غش في الحكم عندما خاطر بمطالبة ديونه التي تصل عدة ملايين من الدولارات، حيث صدر الحكم في النهاية لصالح الموريتاني بسبب يمين أداه أمام القاضي، رفضت بموجبه جميع الأدلة الملموسة والوثائق المؤكدة المدلى بها من طرف المجهزوالتي تثبت بما ليس فيه أي شك صحة ديونه، استحقاقها ووجوب أدائها.
يتم الغش في الأحكام أيضا عندما تُعاد القضية إلى المحاكمة بعد صدور قرار حائز على قوة الشيء المقضي بهيتعلق بنفس الأطراف وبنفس الموضوع وبعبارة أبسط يتم البت فى القضية بصفة مكررة لأن الطرف الذي صدرالحكم الأول لصالحه يعتبر أن التعويض الذي حصل عليه غير كاف فيطالب بتعويض جديد فتستجيب له المحكمة، وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية. ومعنى ذلك أن النزاعات لا تتم تسويتها بصفة نهائية وهذا شكل واضح من أشكال الغش في الأحكام لا مراء ولا شك فيه.
هناك شكل آخر من الغش في الأحكام، وأوضح مثال عليه هو الحكم رقم 86/2015، بتاريخ 29/07/2015 الصادر عن محكمة الشغل بنواكشوط الغربية، حكم بموجبه على شركة محلية ذ/ت رأس مال أجنبي بمبلغ 3.838.388 لصالح بعض عمالها وأكدت محكمة الاستئناف هذا الحكم وبعدها المحكمة العليا.
نفذت الشركة الحكم ودفعت المبلغ للعمال بواسطة صك مصرفي مصدق وفى اليوم الموالي عهدوا من جديد نفس المحكمة ضد نفس الشركة فمنحتهم هذه المرة مبلغ 30.004.733 أوقية بموجب الحكم رقم 62/2017 بتاريخ 25/10/2017.
وكان من حسن الحظ، أن محكمة الاستئناف انتبهت للتدليس الذى تسبب في مغالطة قاضى الدرجة الأولى فطبقت بالحرف المادة 315 من مدونة الشغل التي تنص على وحدانية الدعوى تحت طائلة إلغاء الطلبات الجديدة مالم تكن مؤسسة على أضرار أخرى متقدمة على الأضرارالتي تم البت فيها بموجب حكم حائز على قوة الشيء المقضي به.
فمحكمة الاستئناف عندما لاحظت أن العمال لم يكونوا على جهالة من الطلبات الجديدة حين عهدوا المحكمة في المرة الأولى ألغت حكم الدرجة الأولى، لكن المحكمة العليا ألغت قرار محكمة الاستئناف بسهولة متجاهلة نص المادة 315 من مدونة الشغل. وتجدر الإشارة في هذا الصدد أن أحد قضاة غرفة المحكمة العليا المتعهدة بالنظر في القضية كان رئيس التشكيلة التي أصدرت أول حكم في النزاع، ولم يشعر بالحرج إزاء حالة التعارض هذه، بل كان أيضا هو مقرر التشكلة.
ولزيادة توضيح طرق الغش في الأحكام، لنرجع إلى القانون الجنائي ونتخيل أن مسكينا حُكم عليه بسنة من الحبس وقضى عقوبته، وبعد ذلك أحضر من جديد أمام القاضي بسبب أنه في الحكم الأول غاب عن القاضي وجود ظروفمشددة فحُكم عليه من جديد وأعيد إلى السجن. وبعد انتهاء فترة سجنه وخروجه من الحبس، اعتبر القاضي أن تعويض الطرف المدني لم يكن كافيا، فمثل المتهم من جديد ليُحكم عليه بتعويض مناسب لجبر أضرار الضحية جبرا كاملا........إلخ.
في القانون الدولي، يحمل الغش في الأحكام تسمية أخرى هي "التحايل على القانون" المأخوذة من المثل القائل بأن "التزوير يفسد كل شيء" وهذا ما يقع عندما يحدث تغيير إرادي لضابط الإسناد بهدف الهروب من القانون المختص أصلا وبهذه الوسيلة، يحصل التغيير الإرادي لضابط الإسناد خدمة لمصلحة أحد الأطراف في استفادته من تشريع أكثر مسامحة.
يحدث دائما في القانون الدولي أن يشترك عدة قضاة في الاختصاص في معالجة قضية ما حسب قواعد اختصاصهم الدولية، ويختار المتقاضي المتحايل أحدهم لاستصدار حكم أكثر ملاءمة لمصالحه ثم يحتج به في دولة أخرى غير الدولة التي صدر فيها الحكم.
وفي القانون الدولي دائما، فإن التلاعب بتنازع الاختصاص، يُعاقب عليه المتحايل الذي يسعى إلى التهرب من القانون المختص أصلا، ولكن يجب أن يكون القاضي في هذه الحالات على دراية كافية بعمليات تحايل المتقاضي غير النزيه، وذلك ما يتطلب من الحكم سعة المعرفة والفطنة.
يتجسد السير العادي للقضاء أولا وقبل كل شيء في حمايةالطرفين المدعي والمدعى عليه حتى يقول القانون كلمته، وعلى القاضي أن يعطي لكل طرف نفس الوقت الذي أعطاه للاستماع للآخر، ويلتزم بقواعد حضورية كما يلزم الأطرافباحترامها وأن لا يغير مراكز الأطراف ولا موضوع النزاع لتقوية حجة المتقاضي الأضعف أدلة، وأن يصدر قرارا متوقعا لا يشكل جسما غريبا على النصوص الإجرائية أو الأصلية التي تحكم القضية و يطبق على وقائع النزاع المواد القانونية التي صادقت عليها الجمعية الوطنية ونشرت في الجريدة الرسمية، وليست النصوص التي يأخذها من ثقافته القانونية الشخصية.
وليكون القاضي قاضيا مستقلا يتعين:
- أن لا تكون له ولا لزوجه مصلحة شخصية في النزاع؛
- أن لا يكون هو ولا زوجه سلفا ولا خلفا لأحد الأطراف؛
- أن لا يكون هو ولا زوجه ممولا أو دائنا أو وريثا أو واهبا لأحد الأطراف؛
- أن لا يكون له ولا لزوجه ولا للأشخاص الوصي عليهم مصلحة في النزاع؛
- أن لا يكون هو ولا زوجه قريبا أو حليفا حتى الدرجة الرابعة أو وصيا لأحد الطرفين أو لإداري أو مدير أو مسير لشركة طرف في النزاع؛
- أن لا يكون هو ولا زوجه في وضعية تبعية لأحد الأطراف أو لزوجه؛
- أن لا يكون قد نظر في النزاع كعضو في المحكمة أو حكما أو مستشارا، وأن لا يكون قد أدلى بشهادته فيها؛
- أن لا يكون هو ولا زوجه ولا ذويه أو حلفاؤه المباشرون قد شملهم نزاع حول قضايا مثل القضايا التي شملت هذه الأطراف؛
- أن لا يكون هو أو زوجه أو ذويه أو حلفاؤه المباشرون وأحد الأطراف وزوجه وذويه وحلفاؤه من نفس الأصول في المحكمة؛
- أن لا يكون هو أو زوجه أو ذويه أو حلفاؤه من نفس الأصل يشملهم نزاع مع أحد الأطراف؛
- أن لا يكون هو ولا زوجه يخضعون لمحاكمة أمام محكمة يكون فيها أحد الأطراف قاضيا؛
- أن لا تكون هناك صداقة أو عداوة معروفة بين القاضي وأحد الأطراف.
القرارات القضائية التي تصدر في غياب ضمانات المحاكمة العادلة وعن طريق مغالطة القاضي بوسائل التمويه والتدليس غايتها هي إثراء بغير سبب لمرتكبي الغش والمتحايلين على الأحكام الذين يعمرون قصر العدالة آناء الليل وأطراف النهار، ويعدون بالعشرات والمئين، في الدهاليز، في قاعات المحاكم، ولهم اليد الطولي في كل ما يدور هناك لأنهم في حماية نافذين كبار لا يتورعون في استخدام نفوذهم الواسع ولا يترددون في تحريف العدالة وتحويلها عن مسارها الطبيعي.
ذ/ الطالب أخيار ولد محمد مولود.