إذا تمكنت اللجنة العليا لإصلاح القضاء وتنفيذ توصيات الأيام التشاورية حول العدالة، برئاسة رئيس المجلس الأعلى للقضاء رئيس الجمهورية، من إحداث التغييرات المطلوبة في المنظومة القانونية والتنظيمية في قطاع العدالة وسلطة القضاء، بخصوص توفير الضمانات المطلوبة لاستقلال القضاء، انطلاقا من الشريعة الإسلامية ومن المعايير الدولية لاستقلال القضاء، فسنكون أمام نقلة نوعية في مجال العدالة، وهي نقلة مطلوبة لاستقرار البلد وأمنه وجلب الاستثمارات إليه، وخلق جو من الاطمئنان لدى المواطنين لا غنى عنه. فباستقلال القضاء ووجود القاضي الحيادي يمكن وضع حد للفساد المالي ومحاسبة المفسدين، فلا أحد حينئذ يعترض على أحكام القضاء إلا بالقانون.
إن القضاة بتطبيقهم الصارم لقانون مكافحة غسيل الأموال الموريتاني يستطيعون وضع حد نهائي للفساد، بعيدا عن السياسة، ولن يكون ذلك إلا بتوفير الضمانات القانونية والدستورية لاستقلال القضاء وحمايته، من خلال تغييرات طفيفة في القوانين الإجرائية والموضوعية، وفي القوانين الناظمة للسلطة القضائية (التنظيم القضائي والنظام الأساسي للقضاء)، مع إجراء تعديلات بسيطة في الدستور تمنح النيابة العامة (سلطة الاتهام وممثلة المجتمع في القيام بالدعوى العمومية) صلاحياتها تامة، من خلال إبعادها عن السلطة التنفيذية، ثم تعيين قضاة الحكم بمعايير الاستقامة والصرامة والكفاءة، بعيدا عن معايير تعيين القضاة اليوم.
وذلك من خلال إبعاد السلطة التنفيذية عن تعيين القضاة وتحويلهم ومراقبتهم وصرف ميزانيتهم وتفتيشهم...
ولن يكون هذا إلا بتعيين قاض رئيسا للمحكمة العليا يكون نائبا لرئيس المجلس الأعلى للقضاء بدل وزير العدل، ثم يفوض رئيس الجمهورية لرئيس المحكمة العليا صلاحية ترؤس المجلس الأعلى للقضاء، مع إبعاد وزير العدل عن عضوية المجلس، وإلغاء رئاسته للنيابة العامة، وجعل المفتشية العامة للقضاء تابعة للمجلس، وإعطائه صلاحية تعييين أعضائها. على أن يعين رئيس المحكمة العليا من بين أكثر القضاة خبرة وكفاءة، ويظل في وظيفته مدة 5 سنوات يظل فيها غير قابل للعزل، ويكون للمدعي العام لدى المحكمة العليا نفس المأمورية دون أن تكون له علاقة بوزير العدل، ويعين كذلك بمرسوم رئاسي، بعيدا عن مجلس الوزراء.
ومن أجل التوازن وتحقيق مبدأ الفصل بين السلطات يجب أن تقتصر عضوية المجلس على القضاة، ويكون لمجلس السلطة القضائية مقر يوازي مقرات السلطات الأخرى، وتمنح السلطة القضائية إمكانيات حسب حاجتها التي يحددها المجلس الأعلى للقضاء وحده، ويكون لأعضاء السلطة القضائية في المحاكم نفس الإمكانات اللوجستية الموجودة لدى السلطات الأخرى، كما يجب أن توفر الدولة للقضاة قروضا حسنة ميسرة عن طريق مؤسسة قرض عمومية من أجل إبعادهم عن شبهات البنوك الخصوصية، هذا فضلا عن تحسين نظام التقاعد والمعاش للقضاة بحيث يطمئنون على مستقبلهم حتى يؤدوا مهمتهم على أكمل وجه، دون قلق على مستقبلهم القريب والبعيد.
هذه الإصلاحات جربت في دول مجاورة لنا كالمغرب وتونس والجزائر ولم تسقط الأرض على السماء، بل ساهمت في ترسيخ الأمن والاستقرار وازدهار التنمية ومحاربة الفساد.
فلا سبيل إلى إصلاح قضائي جاد ومقنع ما دامت النيابة تابعة بالقانون تبعية غير مشروطة لوزير العدل الذي هو عضو السلطة التنفيذية، في حين تعتبر النيابة جزءا لا يتجزأ من السلطة القضائية في بلادنا.
فكيف يتحقق الفصل بين السلطتين؟
وما دام رئيس المحكمة العليا وقاضي القضاة يعين من غير القضاة ومن طرف السلطة التنفيذية مثل غيره من السياسيين، وتقيله السلطة التنفيذية متى شاءت بتعينه في منصب آخر، فأي عدالة نريد؟
وكيف يستطيع من هذا حاله أن يكون موجها ورئيسا لقضاء مستقل؟
وما دام وزير العدل عضو السلطة التنفيذية الأبرز هو نائب رئيس المجلس الأعلى للقضاء ويعين القضاة ويقيلهم وفق مزاجه ودون معيار سوى الجهوية والقبلية والمحسوبية والوساطة والخضوع لرغبته في الملفات المعروضة أمام القضاة، فأي استقلالية هذه؟ وأي عدالة نريد؟
وما دامت المفتشية القضائية تابعة لوزير العدل وتمول من وزارة العدل فمن يفتش من؟
إن لم تكن السلطة التنفيذية هي التي تفتش السلطة القضائية ويتم تعيين المفتشين من طرف مجلس الوزراء باقتراح من وزير العدل، فأي عدالة نريد؟
وأي قاض مستقل نريد؟
وما دامت النيابة العامة التابعة لوزير العدل (التابع بدوره للسلطة التنفيذية) هي من تحدد تسخيرات القضاة الجالسين وتصرفها وفق معايير السلطة التنفيذية فأي عدالة نريد؟
وأي حياد من القاضي نطلب؟
وما دامت ميزانيات المحاكم ضمن ميزانية وزارة العدل وتحدد من قبل وزارة المالية وهو ما يشكل أكبر ضغط على القاضي، فأي عدالة واستقلالية للقضاء نريد؟
وما دامت القوانين النظامية والتنظيمية للقضاء تعدها الوزارة التابعة للسلطة التنفيذية مشاريعها، وتصادق عليها السلطة التشريعية الداعمة للسلطة التنفيذية، فعن أي فصل للسلطات نتحدث؟
وأي عدالة واستقلالية للقضاء نريد؟
وما دام القاضي يقترض من البنك قرضا ربويا أو غيره فيكون مدينا لأشخاص قد يترافعون أمامه غدا، فيقع تحت ضغط هذا الدين بالإضافة إلى دين صاحب حانوت البيع بالتقسيط وشركة الماء والكهرباء ومالك الشقة المؤجرة... فأي عدالة نريد؟
وأي حياد واستقلالية من القاضي نريد؟ وكيف؟
وما دامت تحويلات القضاة وتعيينهم في النيابة والمراكز القضائية الأخرى خبط عشواء، دون احترام التخصص ولا التكوين ولا الكفاءة ولا التجربة ولا الدرجة... فأي عدالة نريد؟
ففي فرنسا (التي هي نموذجنا في التنظيم القضائي وقواعد العدالة المعاصرة والقوانين الإجرائية والموضوعية) تتبع النيابة لوزير العدل، ويصدر إليها الأوامر والتعليمات عند الاقتضاء، لكن وفق القانون فقط، وإذا خالفت أوامره وتعليماته القانون فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق! هذا في فرنسا.
وفي المملكة المغربية وفي الجزائر لم يعد وزير العدل عضوا في المجلس الأعلى للقضاء الذي بات يسمى: "مجلس السلطة القضائية" ويرأسه قاض وجوبا، هو رئيس المحكمة العليا بتفويض من الملك أو الرئيس.
وفي بعض دول الجوار يمتلك مجلس القضاء الأعلى مقرا يوازي في حجمه وأبهته مقرات السلطات الأخرى، وتداوم فيه لجنة دائمة إدارية تابعة للمجلس الأعلى للقضاة تعنى بتحديد وتسيير ميزانية القضاء وإعداد نصوصه وإعداد جدول المجلس والتحويلات والترقيات، لتقديمها إلى مجلس القضاء للمصادقة عليها خلال دورته المقبلة.
وفي بعض الدول المتقدمة قضائيا لا يتقاعد القاضي إلا بعد 70 سنة وإذا كان ما يزال بصحة جيدة وصاحب كفاءة وتجربة يمكن الاستفادة منها يمدد له مجلس القضاء بناء على طلبه، رغم أن القاضي في هذه الدول ليس قلقا عند التقاعد لأن معاشه قادر على توفير حياة مريحة له بعد تقاعده.
ويستفيد القضاة في الدول التي تحترم قضاءها من سيارات، وأحيانا تكون لها شارة خاصة بالقضاة.
وفي بعض هذه الدول تتبع المفتشية العامة للقضاء للمجلس الأعلى للقضاء وليست لها علاقة بالسلطة التنفيذية كي تتمكن من أداء مهمتها المهنية على أكمل وجه وبحياد كما يكرس الأمر مبدأ فصل السلطات الدستوري.
وفي بعض هذه الدول يسلك القضاة طريقا سالكا وسلسا ومشرفا يحفظ لهم كرامتهم وهيبتهم وحيادهم للحصول على الديون بعيدا عن الشبه حيث توفر هذه الدول قروضا ميسرة وحسنة للقضاة بعيدا عن البنوك الخاصة والأشخاص.
وتفصل الدول المعاصرة بين قضاء النيابة والقضاء الجالس لكل منهما مجلسه الخاص به ويتم تكوين قضاة النيابة والقضاء الجالسين كل حسب تخصصه في أحد التخصصين منذ الوهلة الأولى في مدرسة القضاء وعند التخرج يعين من كونوا في النيابة في النيابة العامة، ويعين المكونون على قضاء الحكم في المحاكم بمعايير دقيقة وموضوعية، ولا يمكن مستقبلا تعيين قاض جالس في النيابة ولا قاضي نيابة في القضاء الجالس.
وقد وفر هذا وقتا كثيرا وأدى إلى تراكم خبرات كبيرة لدى الجميع في مجاله وتم فيه احترام تخصص صاحب شهادة القانون في النيابة، وشهادات الشريعة والقانون في القضاء الجالس مثلا.
أما في بلادنا فيمكنك أن تمر بكل هذه الوظائف خلال سنوات قليلة دون أن تراكم خبرة ودون أن يكون تم تعيينك بمعيار غير الوساطة والمحسوبية وهو الأمر الذي أصبح في الفترة الحالية أكثر عمقا للأسف.
يطلب الشرع الإسلامي من ولي الأمر ولمصلحة الأمة إغناء القاضي من بيت مال المسلمين وهي ضمانة حسمت عبر التاريخ الإسلامي علاقة القاضي المادية بالأفراد والحكام، ومكنته من الحياد والاستقلالية، وكرستها المبادئ الحديثة مثل إعلان مونتريال 1981م. في حين يتقاضى قضاتنا مرتبات يذهب معظمها ما بين اقتطاعات البنوك المجحفة وفواتير أقلها: الماء والكهرباء.