تبدو الحاجة ملحة لعصرنة الخطاب الديني ليكون فاعلا ومستوعبا ومتدخلا في ميادين الحياة بأشكالها وألوانها المختلفة، وليتناسب أيضا مع رسالة الإسلام الصالحة لكل زمان ومكان، فنحن في عصر يتسم بسرعته المذهلة ويحاصرنا بتطور أدواته وأدق تفاصيله ومكتشفاته..، عصر لا تحده حدود ولا تقف دونه حواجز أو عوائق...
ومن غير المعقول أن يظل الخطاب الديني منعزلا في كهوف الماضي غير مكترث بما يستجد من الطوارئ والملمات في المستقبل والحاضر، لا يسعي لمواكبة هذا العصر وظروف زمانه ومكانه، فما يصلح أن يكون خطابا في زمان أو مكان قد لا يصلح أن يكون خطابا في زمان أو مكان آخر،
كما لا يعقل أيضا أن تواجه مشاكله وتحدياته بوصفة الوعظ والمحاضرات المألوفة خارج نطاق حركة التطور، فالاعتماد على المعالجة بمثل هذا الخطاب غير المستوعب لقانون التطور يعطي انطباعا بافتقار الخطاب الديني للرؤية الراشدة في مجال الحياة المعاصرة وعدم قدرته على توظيفه أليات التفكير السليم. والأمر ليس كذلك.
ونحن كمسلمين مطالبون بالكشف عن قدرة الإسلام علي التجاوب والتفاعل مع تداعيات العصر من حل للأزمات العالمية والمحلية والأزمات المالية...، وإيجاد البدائل والحلول الإسلامية لذلك كله.
ولن ينجح الخطاب الديني مالم يكن مستوعبا لهذه الحقائق ومنفتحا على قضايا العصر لا يعتمد إقصائها وإبعادها، بل يجب أن يتبناها ويسعي لحلها بتفجير طاقات العلماء واستثمارها لذلك.
ولا شك أن تطوير الخطاب الديني ليساير المستجدات العصرية مسؤوليته تقع على عاتق العلماء والفقهاء والأئمة والدعاة، فهم مفاتيح التجديد ومعالم الاجتهاد وهم من يستطيع عصرنة هذا الخطاب وتكييفه مع متطلبات العصر مستحضرين في ذلك ما قاله ابن فرحون المالكي " إن كل ما هو في الشريعة يتغير الحكم فيه بتغير الزمان والمكان " أو ما قاله باكورة المذهب المالكي محمد ابن ابي زيد القيرواني عند ما اعترض عليه أحد طلابه لما خالف مالك وقال بجواز كلب الحراسة: " لوكان مالك في زماني لاتخذ أسدا ضاريا يحرسه ".
من هذا المنطلق تبرز أهمية الحاجة إلى إعادة النظر في أدوات الخطاب الديني وأساليبه السائدة ليتسع صدره لكل معطيات العصر الراهن وما يعتريه من مشاكل وتحديات، إذ من شأن هذا الخطاب أن يقوم بحل كل المشاكل بما يتوافق مع مبادئ الشريعة الإسلامية.
وليكون الخطاب الديني متناغما ومنسجما مع مفردات العصر وتحدياته، علينا أن نشير و أن نساهم ببعض التوصيات المساعدة في ذلك.
أولا: الاستفادة من تقنية الاجتهاد
يمكن الاستفادة مما تتيحه تقنية الاجتهاد كوسيلة حيوية لمواجهة الوقائع غير المتناهية، سبيلا إلى تحريك سواكن الفقه الإسلامي نحو الحلول والبدائل لما يطرح من مشاكل تعترض الناس في حياتهم، وهذه حقيقة أدركها الكثير من العلماء المحققين كالعلامة الشيخ محمد المامي ولد البخاري الذي أوجب الاجتهاد على نفسه لما رأي أن بعض معاصريه من العلماء قد فرط في الاجتهاد وألزم نفسه بالتقليد، يقول الشيخ محمد المامي:
سلام علي القرن الألى خذلوني وناطحت عنهم ماضيات قروني
بتأديتي فرض اجتهاد عليهم وفتحي لأبواب له وحــــــصون
فآلية الاجتهاد في نطاق النصوص المتناهية مقابل الواقع غير المتناهي، هي ما كشفت عن مرونة الشريعة الإسلامية وحيويتها وأصبحت من خلالها قادرة على مواجهة المشاكل والحوادث المتجددة.
ويكفي للتدليل على أهمية الاجتهاد في الحياة المعاصرة أن نشير إلى ما خلص إليه بيان المؤتمر الدولي الثاني للقانون المقارن المنعقد في لاهاي سنة 1939 من الاعتراف بمرونة الشريعة الإسلامية وقابليتها للتطور واستقلالها عن غيرها من الشرائع وصلاحيتها لأن تكون دعامة من دعائم القانون المقارن،
وجاء أيضا في البيان الختامي لمؤتمر أسبوع الفقه الإسلامي المنعقد في باريس سنة 1951 برئاسة نقيب المحامين الفرنسي والذي صرح عقب المؤتمر بتصريح جاء فيه أن مبادئ الفقه الإسلامي لها قيمة حقوقية لا لبس فيها.
كما خلص البيان أيضا إلى أن حوارات علماء المسلمين واختلافهم في الاتجاهات الفقهية ينطوي على ثروة هائلة من المفاهيم العلمية والنظريات الحقوقية، تستطيع الشريعة من خلال الاختلاف الحاصل بين رؤساء المذاهب الإسلامية أن تستجيب لجميع متطلبات الحياة مع انسجام تام في المبادئ والأصول.
ثانيا: الاستفادة من تقنية الحوار والنقاش العلمي
مما يثير الإعجاب حقا أن ينظر علماء الغرب المتطور ـ كما رأينا ـ إلى اختلاف فقهاء المسلمين وحواراتهم العلمية على أنها تشكل مصدرا من مصادر العلم، ويجعلنا هذا الإعجاب نعتز أكثر بتراثنا الذي يؤمن بأهمية الحوار واختلاف المشارب والتناقضات مع بقاء الود واحترام المخالف والتعامل مع ما يراه بأسلوب حضاري رفيع، وقد ضرب لنا الإمام الشافعي رحمه الله أروع الأمثلة في ذلك، فعند ما زار قبر الإمام أبي حنيفة صلي في مسجه ولم يقنت في صلاة الصبح وهو يري القنوت سنة خلافا لأبي حنيفة، فسئل عن سبب تركه للقنوت مع ما يراه من سنيته, فقال: تركته في هذا الموقف احتراما لصاحب هذا القبر. ثم قال:
لقد زان البلاد ومن عليها إمام المسلمين أبو حنيفة
بأحكام وآثار وفقــــــــه كآيات الزبور على الصحيفة
فما بالمشرقين له نظير ولا بالمغربين ولا بكـــــوفة
فرحمة ربنا أبدا عليه مدي الأيام ما قرئت صحيفة
لهذا يلزم الخطاب الديني أن يشجع على الحوار والنقاش العلمي وأن يفتح بابه امام العلماء والفقهاء وطلبة العلم لتنقيح معارفهم واستجلاء إشكالاتهم وتبادل ما صح من معارفهم ليوائم ذلك مع مقتضيات العصر وتحدياته، كل ذلك في جو يطبعه الاعتدال ويصاحبه اللين والرفق بالمخالف وعدم تسفيه ما يقول، طبقا لما قرره العلامة حرمة ولد عبد الجليل العلوي من مراعاة تفعيل قواعد النقاش وتحكيمها عند الحوار، يقول:
إذ اختلف الاقوام في حل مشكل رعي بعضهم مالم يكن غيره يرعي
فقل ما تري واترك سواك وما يري فتخطئة المخطين أو غيرهم شنعا
فهل كانت الأسلاف يجبر بعضهم سواه على أمر يري غيره شــرعا
فهذا طريق سار عليه أكثر علماء الائمة سلفا وخلفا، فلم ينظروا للحوار والاختلاف على أنه مدعاة للشقاق وإثارة الشحناء والبغضاء، بل نظروا إليه من باب أنه يرمي إلى التنوع والثراء العلمي لا إلى الصراع والنزاع ويحمل في مضامينه دعوة إلى البحث عن الحق وتوضيح ما التبس من معانيه على حد قول الشيخ سيد محمد ولد الشيخ سديا رحمه الله في المقطوعة الشعرية التالية:
أذاكر جمعهم ويذاكرونــــــــي بكل تخالف في مذهبــــــين
كخلف الليث والنعمان طورا وخلف الأشعري مع الجــويني
وأوراد الجنيد وفرقتيـــــه إذا وردوا شراب المشربيــــــن
وأقوال الخليل وسيبويه وأهـــلي كوفة والأخفشـــــــــين
نوضح حيث تلتبس المعاني دقيق الفرق بين المعنيــــــــين
ثالثا: تطوير منظومة التعليم الأصلي
اعتبر أن هذه النقطة من أهم المسائل التي ينبغي للسلطة أن تركز عليها، فهي بلا شك تساعد في عصرنة الخطاب الديني وإبراز دوره وفاعليته في واقع الحياة المعاصر، ويمكن ان يأخذ تطوير هذه المنظومة ثلاث طرق كلها تصب في الأخرى وتتكامل معها
1 ـ تطوير مؤسسات التعليم العالي
ونقصد بمؤسسات التعليم العالي، المعهد العالي للدراسات والبحوث الإسلامية وجامعة لعيون الإسلامية والمعاهد الفرعية، والمحظرة النموذجية وبقية المحاظر الأخرى، ففي هذا الاتجاه على السلطة أن تقوم بوضع قوانين وخطط تهدف إلى إصلاح المناهج مع تحسين كفاءة القائمين عليها.
2 ـ التشجيع على الاجتهاد الفقهي
فإصلاح هذه المؤسسات على النحو الذي ذكرناه هو ما يهيئ الطالب إلي مرتبة التفقه في الدين ويمكنه من فهم الواقع أولا ومن كيفية استخراج واستنباط الأحكام التي تتناسب مع الواقع المعاصر وتصبح عنده القدرة التامة على الاجتهاد في القضايا المعاصرة، لكن يلزم بالإضافة إلى ذلك تبني فكرة تشجيع العلماء وطلاب العلم علي الاجتهادات الفقهية والعلمية
إبراهيم الب خطري
إطار في وزارة الشؤون الإسلامية والتعليم الأصلي
باحث في القانون والدارسات الإسلامية