بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين.
{وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا}
{وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا}
{الذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ وَالذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ وَالذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ وَاجْعَلْنِي مِنْ وَّرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ وَاغْفِرْ لِأَبِيَ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ}
مدخل:
أتعلم، أم أنـت لا تعلــم بأن جراح الضحايا فـم
فم ليس كالمدعي قولة وليس كآخــر يسترحـم
يصيح على المدقعين الجياع: أريقوا دمــاءكـم تطعموا
ويهتـف بالنفــر المهطعيــن أهينــــوا لئامكمُ تكـرموا
أتعلم أن رقاب الطغاة أثقلهــا الغُنــم والمأثــم
وأن بطـون العتـــاة التــي مـن السُّحـت تهضِـم ما تهضِــم
وأن البغي الذي يدعي من المجد ما لم تحز مريم
ستنهدُّ إن فار هذا الدم وصـوَّت هذا الفـم الأعجم.
ويا طعة البِشر إذ ينجلي ويا ضِحكة الفجر إذ يبسِم
فإنك أشرف من خيرهم وكعبـَك مـن خــده أكـــــرم
وحيث استقرت صفات الرجال وضــــم معادنها منجَم.
لِيشمخْ بعهدك أنف الزمان وأنفي، وأنفُهـم مرغـم.
محمد مهدي الجواهري
يخاطب أخاه الضحيـة.
سيدي الرئيس،
السادة أعضاء المحكمة الموقرة،
ستكون مرافعتي بإذن الله في صميم موضوع الاتهام، وستكون على قدْر الملف، وسأبذل ما في وسعي لأوازن بين الصراحة التي تتطلبها ضرورة إظهار الحقيقة جلية للعيان في هذا المقام؛ وبين اللباقة والاحترام الواجبين في مجلس قضائكم الموقر، وسألتزم بتوجيهاتكم في إطار القانون. وستجدون في مرافعتي - إن شاء الله- عبقا من تاريخ وآداب وقيم هذا الوطن المنكوب بسلوك بعض أبنائه الجانحين المفسدين!
وقد لا يثير سيبويه - رحمه الله- كثيرا من الاعتراض أمامكم بسببي، كما جرى في بعض الأحيان، لحد جعله يستشيط غيظا ويغادر القاعة غضبانَ أسفًا!
وسوف أتناول فيها المحاور التالية إن شاء الله:
المحور الأول: في المحكمة: وأد القانون، وغياب أسس المحاكمة العادلة!
المحور الثاني: في الدعوى والبينات، والانقلاب الناعم على النظام!
المحور الثالث: في عدم وجود طرف مدني في هذه الدعوى!
المحور الرابع: في بطلان الحكم الطعين، والرد على طلبات الاتهامين.
المحور الخامس: خاتمة في القضاء والعدل.
المحور السادس: طلبات الدفاع.
وقبل أن أدخل في الموضوع، أود أن أتقدم بثلاث ملاحظات تمهيدية:
الملاحظة الأولى: وتتعلق بالملف الذي بين يديكم. ويلخصها قول دريد بن الصِّمّة:
أمرتهم أمري بمنعرج اللوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغد
فلما عصوني كنت منهم وقد أرى غَوايتهــم، وأننـي غيــر مهتــــــد
وما أنا إلا من غَزِية إن غوت غويـت، وإن ترشــد غزية أرشــد.
فقد أدركت منذ اختلاق هذا الملف واطلاعي على بعض عناصره، مدى خطورته على العباد والبلاد، وأن لا علاقة له بمحاربة الفساد ولا بالقانون والعدل، وإنما هو نكوص وانقلاب على الإصلاح، وذريعة لشغل الرأي العام عن طوفان الفساد الحقيقي الذي عصف بموريتانيا. الشيء الذي جعلني وزملائي الكرام نبذل قصارى جهودنا من أجل وأد فتنته: فكتبنا، وقابلنا وحاورنا الإعلام، وحاولنا بكل الوسائل مقابلة المسؤولين؛ وخاصة فخامة رئيس الجمهورية، بصفته حامي الدستور ومجسد الدولة والحَكَمَ الذي يضمن السير المطرد والمنتظم للسلطات العمومية حسب نص المادة 24 من الدستور، حتى يجنبوا البلاد ويجنبوا أنفسهم كارثة انفجار قنبلة هذا الملف. ولكن هيهات! وقد كنت أقول وأصرح في كل منعطف من منعطفات تطور هذا الملف بما اعتقدت صوابه وهو: أن تقرير "لجنة التحقيق البرلمانية" لن يحال لعدم شرعيتها ولفراغه. ثم أحيل بطريقة عجيبة سأحدثكم عنها لاحقا. وأن القضاء لن يتعهد. وقد تعهد بطريقة غريبة سأحدثكم عنها لاحقا أيضا. وأنه لن تجري محاكمات.. وجرت المحاكمات بطريقة عجيبة وغريبة! لقد أخطأ جميع توقعاتي لأني بنيتها على القانون والمنطق، وهذا الملف لا يخضع لقانون ولا لمنطق؛ ولأن قوى طاغية كانت تدفعه في الاتجاه الخطأ! لكن يبدو أن ما قلته عنه أخيرا قد تحقق! نعم. لقد كتبت معلقا على التعديل الوزاري الأخير تحت عنوان "وفاة ملف العشرية" ما يلي: "فإما أن يكون كبير القوم قد استوعب الدرس أخيرا، وأراد الخروج حقا من النفق، ويكون من بين من آواهم إليه رجل رشيد! فعندها لا يبقى من ملف إفك "فساد العشرية" سوى حد "الذي تولى كبره"! وإما أن يكون ما جرى مجردَ مناورة كيدية هدفها ذر الرماد في عيون الناس وامتصاص نقمتهم وكسب الوقت والتمادي في الباطل... ففي هذه الحالة لن تبقى لدى الممسكين بتلابيب هذا الملف ذرة مصداقية يحاكمون بها نملة، أحرى أن يحاكموا ليثا هزبرا في ملف أدرك فراغه الصبي والغبي! ويبدو من خلال هذه المحاكمة أنهم في هذه المنزلة!
الملاحظة الثانية: وتتعلق بالعلاقة بين الدفاع والمحكمة. فمن البديهي أن الدفاع يحمل مسؤولية كبيرة وأمانة خطيرة تتجسد في العمل الجاد من أجل إظهار الحقيقة، حتى لا يُظلم المتهم وتنتهك حقوقه فلا ينالَ البراءة إذا كان بريئا، أو ينالَ عقابا لا يلائم ما ثبت عليه من جرم. وذلك ابتغاء مرضاة الله الذي حرَّم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرما، وأمر بالعدل والإحسان.. وإحقاقا للحق وخدمة للمحكمة والمجتمع والدولة؛ وإذا قصّر أو جامل أو حابى أو داهن في أداء هذه الرسالة المقدسة فسيكون خائنا لواجبه ولأمانته! وهنا وجب الإنصاف والمعذرة. ثم إن الدفاع كالضيف. ومِن أبلغ ما قيل في الضيف ما جاء في وصية عبد قيس بن خُفَافٍ لابنه جُبيل:
والضيفَ أكرمه فإن مبيتــــه حق ولا تـك لُعنـة للنــزل
وأعلم بأن الضيف مخبر أهله بمبيت ليلته وإن لم يُسأل
ففكروا فيما تريدون أن يخبر به ضيفكم أهله.
الملاحظة الثالثة: وتتعلق بعمدائنا وزملائنا في الاتهامين. فمما أثار عَجَبي في هذا الملف وأنا أصغي إلى مرافعات النيابة الموقرة وعمدائنا وزملائنا الأكارم، أحاديثهم المطولة عن قدسية المراسيم وخطورة خرقها وتجاوزها، وما يترتب على ذلك من حساب عسير وعقاب شديد، وتجاهلهم ونكرانهم للنصوص الدستورية الصريحة، ولأحكام المجلس الدستوري، وغير ذلك من القوانين التي انتهكت واستبيحت نهارا جهارا على رؤوس الأشهاد في هذا الملف! وكذلك أحاديثهم عن أخلاق وأدبيات مهنة المحاماة، وعن تاريخها المجيد! فهل انقلبت الأمور في أعيننا رأسا على عقب؟ أم إننا أمام لعبة مصالح انتهازية تجعل المرء ينتقي ويذكر ما يصلح له مهما كان ضعفه، ويتجاهل ويجحد ما كان حجة عليه مهما كانت قوة سلطانه؟ {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}؟ ثم هل من أخلاق وأدبيات مهنة المحاماة التمادي والإمعان في الظلم والتآمر وتحليل انتهاك القوانين والتزوير واستعمال المزور إلخ..؟ أما السُّلُوُّ بالحديث عن ماضينا المجيد بينما حاضرنا بائس ورديء، فقد سفهه بما فيه الكفاية معروف الرصافي - رحمه الله- بقوله:
وهل إن كان حاضرنا شقيا نسود بكون ماضينا سعيدا؟
ملاحظة رابعة: خطرت ببالي الآن؛ وهي أن يعرف العمداء والزملاء في الطرف الآخر أنني لا يقعقع لي بالشنان! ولن يَثنيني تشويشهم عن قول ما أعتقد! ولن أجاريهم في غيهم. ثم إن مرافعتي مكتوبة. و"يمرگ الراص الما يمرگ الكراص!" وفي هذا الزمن لم يعد ممكنا كبت وحجب الحقيقة بالشعوذة والصخب في ظل الطفرة التقنية والإعلامية! فحتى الأميرة "تيبة" فهمت أن إغلاق باب الحظيرة على الغربان لا يمنعها من الطيران في الأعالي بعيدا عن انتقامها هي البائس.
سيدي الرئيس،
السادة أعضاء المحكمة الموقرة،
مهنة المحاماة مهنة نبيلة وعريقة، ومن تقاليدها أن يرافع الأحدث انتماء إليها فالأقدم.. ولذلك غالبا ما يرافع الشباب أولا، ثم يأتي دور الشيوخ! وينسجم هذا التقليد مع أحد تقاليد العرب الذين يقدمون شيوخهم مطلقا إلا في ثلاث: إذا لاقوا خيلا، أو سروا ليلا، أو خاضوا نيلا! ولعمري إن الدفاع في هذا الظرف الاستثنائي لكذلكم. وحري بمن يخوض غماره في مثل هذا الموقف أن ينشد قول امرئ القيس بن حُجر:
فيا رب مكروب كررت وراءه وطاعنت عنه الخيل حتى تنفسا.
ومما يؤخذ على هذا التقليد – رغم نبله- ضرره بأداء الشيوخ؛ إذ كثيرا ما لا يترك لهم الشباب المتألق من مائدة الدفاع الدسمة إلا السؤرَ! لكن يوجد مثل يقول: "إن القدور العتيقة هي التي تصنع المرق الجيد! وفي ذلك سبقني عميدي القدير الطالب اخيار محمد مولود، فلم يترك لي غير "الحيس لگدح"! وسأجيد لحسه إن شاء الله!
في الحلقة القادمة:
المحور الأول: في المحكمة: وأد القانون، وغياب أسس المحاكمة العادلة!