فرقة "أولاد لبلاد" ضد الرئيس (تقرير)

ew

احتشد الجمهور في إحدى ساحات العاصمة الموريتانية في انتظار فرقة

الهيب هوب الجديدة "أولاد لبلاد". ولم تغب صورة مغني الرّاب وهو يرتدي بنطلون الجينز الواسع والممزّق والقميص الملوّن والنظارات والأساور والقبعة، عن الأذهان لدى ترقّب انطلاق الحفل الموسيقي. إلا أنّ المفاجأة كانت عندما ظهر أعضاء فرقة "أولاد لبلاد" الثلاثة على المنصّة وهم يرتدون الزي الفولكلوري الموريتاني بكل حمولته الثقافية ورمزيته الاجتماعية الضاربة في تاريخ الصّحراء الكبرى. وسرعان ما انتبه الجمهور إلى أن اللحن لا ينتمي إلى موسيقى الهيب هوب المعروفة بل يحمل إيقاعات وأنغاماً مألوفة في التراث الموسيقي الموريتاني. وحتى الكلمات بدت أقرب إلى صورة ثلاثية الأبعاد لواقع الحياة اليومية في عشوائيات الصفيح والقصدير وقلاع الفقر والبطالة التي تحاصر أحياء الأغنياء في نواكشوط من كل اتجاه. فمن هي إذاً فرقة "أولاد لبلاد"؟

ابن العسكري الذي حمل القيثارة

في أحد تلك الأحياء في المقاطعة السّادسة على ضفاف المحيط الأطلسي، نشأ إسحاق ولد سيدي ابراهيم من أب دركيّ. لكنّه لم يشأ أن يحمل البندقية وفضّل أن يحمل القيثارة وأن يسلك طريق الفنّ الزاخر بالعثرات والمتاعب في مجتمع تُعتبر فيه الفنون وظيفة اجتماعية تنتقل بالوراثة والانتماء لعرق معيّن وليس بالموهبة والاحتراف.

أحب إسحاق موسيقى الهيب هوب لأنّها تُعبّر عن الواقع وتنبض بآلام الشوارع وتحمل رسالة أسياسية ألا وهي الاحتجاج على النمط السائد وإيصال أصوات المظلومين. لذا يرى إسحاق أنّ فنّان الراب "ليس سوى محامٍ يدافع عن الضعفاء في محكمة كبيرة هي الدولة الحديثة".

ظل إسحاق يرافق فرق الهواة التي تُنظّم حفلات موسيقية في الأحياء الشعبية، فيدفع لها مقابل أن تسمح له بالغناء على مسارحها. كان يلتقي الجمهور ويدرس الأنماط الموسيقية السائدة على الساحة الفنية ويلتقي أيضاً أقرانه من الشباب الثائرين والحالمين بتغيير الصورة النمطية للفن والفنان في أذهان الموريتانيين، تلك الصورة المستوحاة من البنية الاجتماعية التي تجعل من الفنان جزءاً من ديكور القبيلة يتغنّى بأمجادها في المناسبات والأعراس ومجالس الطّرب بدون أن يضطلع بدور فاعل في ما يدور حوله أو يضع نصب عينيه مغزى سوى الترفيه.

عام 1996، قرّر إسحاق برفقة سبعة من أصدقائه تأسيس فرقة موسيقية أطلقوا عليها "الفرقة الحسّانية". إلا أن المجتمع ظل يلاحق أحلام الفرقة المتمردة وأدّى الضغط العائلي لانسحاب اثنين من أعضائها. حينذاك، قرّر الآخرون تأسيس فرقة "أولاد لبلاد" في الخامس من مايو 2000.

انطلاقة مختلفة

اتّفق أعضاء الفرقة على اقتسام جزء من إيرادات الحفلات الغنائية على أن يتمّ إيداع الجزء الآخر في حساب مصرفي لتمويل الألبوم الأول. وبالفعل، نجحت الفرقة في تسجيل ألبومها الأول "عاداتنا" في أحد استديوهات العاصمة السنغالية داكار عام 2007. وبفضل المبيعات الكبيرة التي حقّقها هذا الألبوم أصبح لدى الفرقة وسائلها الخاصة لإنتاج وتوزيع الأغاني، في حين يتعاون الأعضاء في التأليف والتلحين والغناء واختيار كلمات الأغاني التي لا يخلو البحث عن مواضيعها من طرافة.

تلجأ الفرقة أحياناً إلى إرسال أحد أعضائها متخفياً ليندس بين ركاب باصات النقل العام في الأحياء الفقيرة أو بين مرتادي الأسواق الشعبية، فيسجّل نماذج من النقاشات التلقائية التي غالباً ما تدور في تلك الأماكن المكتظة بالمواطنين. وبعد الاستماع لهذه التسجيلات، يقوم كل واحد من أعضاء الفرقة، على حدة، بصوغ الأفكار في قوالب سلسة وبسيطة ليتمّ اختيار أنسب الكلمات التي كثيراً ما تتمحور حول معاناة الأحياء الشعبية ومشاكل الأمية والفقر وواقع الإقصاء والتهميش.

تؤكد الأغاني على مطالب العدالة الاجتماعية والتقسيم العادل للثروات مع انتقاد لاذع لتردّي الخدمات العامة في البلاد وللطبقة السياسية؛ انتقاد اتّسع أخيراً ليشمل شخص الرئيس الموريتاني محمد ولد عبد العزيز وأفراد أسرته وبعض مقرّبيه، عندما أصدرت الفرقة، مطلع هذا العام، أغنية بعنوان "كَيّم" (أي "ارحل" باللهجة الحسانية العربية) هاجمت فيها النظام الحاكم مطالبة برحيل الرئيس الذي وصفته بـ"كبير المفسدين".

لاقت الأغنية رواجاً كبيراً في أوساط الشباب وأثارت جدلاً سياسياً وإعلامياً بين أعضاء الفرقة وجماهيرها من جهة، وبين حزب الاتحاد من أجل الجمهورية الحاكم من جهة أخرى. فاعتبر هذا الأخير في مؤتمر صحفي في نواكشوط أنّ المعارضة الموريتانية تحاول "حرف الفرقة الفنية عن مسارها". وقال عضو اللجنة الشبابية للحزب عبد الله حرمة الله إنّ "الأغنية تدخل ضمن سلسلة من المؤامرات نفّذها بعض رجال الأعمال والسياسيين، بينهم محمد ولد بوعماتو، لإلحاق الضرر بصورة البلد في الخارج". إلا أنّ مؤسس فرقة "أولاد لبلاد" إسحاق سيدي إبراهيم نفى ذلك نفياً قاطعاً وقال لرصيف22: "لا تربطنا علاقة من أي نوع كان برجل الأعمال المعارض المقيم في الخارج محمد ولد بوعماتو، ولم نعرفه إلا عبر شاشة التلفزيون". وأضاف أنّ الفرقة سجلت الأغنية مع اندلاع ثورات الربيع العربي، لكنّها فضلت تأجيل إصدارها حتى الوقت المناسب، موضحاً أن "الأغنية جرت عليها تعديلات وإضافات عديدة منذ إنتاجها تبعاً لتطور الأحداث الداخلية في البلاد".

فتاة ومخدرات واغتصاب

لم تمضِ أسابيع على إصدار أغنية "ارحل" حتى اعتقلت السلطات الأمنية عضو فرقة "أولاد لبلاد" حمادة ولد سيدي بونة بتهمة الاغتصاب وحيازة المخدرات في قضية أثارت الرأي العام الموريتاني. وكانت إحدى الفتيات قد ادّعت أنّ الفنان حمادة اقتادها إلى شقته واغتصبها. اعتبرت الفرقة اعتقال حمادة استهدافاً مباشراً لها من النظام وانتقاماً من الفرقة بعد إصرارها على عدم التراجع عن محتوى أغنية "أرحل" رغم التعرض للتهديد والإغراء من قبل مقرّبين إلى الرئيس محمد ولد عبد العزيز. أصرت الفرقة على عدم الإذعان للضغوط عبر إصدار أغنية جديدة محورها "قضية حماده". وكان المتحدث باسم اللجنة الشبابية للحزب الحاكم قد أكّد أن "قضية اعتقال حمادة قضائية يواجه فيها المعني تهماً بناء على شكوى من مواطنين عاديين"، نافياً أي علاقة للنظام.

وإثر اعتقال حمادة، غادرت فرقة "أولاد لبلاد" موريتانيا إلى كندا وشاعت أنباء عن نية أفرادها طلب اللجوء. إلا أن مؤسس الفرقة إسحاق ولد سيدي ابرأهم نفى هو وزملاؤه الرغبة في مغادرة موريتانيا بشكل نهائي، قائلاً لرصيف22: "لا صحة لما يشاع عن نيتنا الإقامة في الخارج. نحن لم نطلب ولن نطلب أوراق أي دولة أجنبية وسنعود إلى موريتانيا متى توفّرت الظروف الملائمة". عاد إبراهيم إلى داكار فيما لا يزال زميله في كندا، وقضت المحكمة العليا ببراءة عضو الفرقة حمادة ولد سيدي من كافة التهم المنسوبة إليه، وأمرت بإخلاء سبيله.

اثنين, 23/03/2015 - 08:34

إعلانات