تتفق الأنظمة الموريتانية المتعاقبة منذ الاستقلال عموماً على كيفية تعاملها مع ظاهرة العبودية. ويستند هذا التعامل الى إنكار هذه الظاهرة والتعتيم عليها، والادعاء أن الموجود منها لا يعدو كونه من آثار ومخلّفات التنظيمات التقليدية.
وسنحاول هنا الإضاءة على ثلاث معالجات رسمية لهذه الظاهرة والعمل من ثمّ على تحليلها.
المعالجة التشريعية للعبودية
من أبرز النصوص التي وُضعت والتي تدرجت من حيث قوتها في القضاء على العبودية، النصوص الآتية:
- نصوص تلغي العبودية كمنظومة اجتماعية ظلت قائمة في المجتمع التقليدي الموريتاني مع ضمان التعويض لمُلاَّك العبيد. وهذا ما نقرؤه في الأمر القانوني الصادر في 9-11-1981 المتضمن إلغاء الرق.
- نصوص هامشية انتهازية ترتبط بظاهرة أخرى تشبه الظاهرة التاريخية العبودية وتحاول التجريم باستحياء. وقد أُقرّت هذه النصوص نتيجة ضغط المنظمات الحقوقية. فلجأت موريتانيا إلى المصادقة على المعاهدة الدولية ضد الإتجار بالأشخاص دون تجريم استعبادهم. وهذا ما نقرؤه في القانون الصادر في 17-7- 2003 المتضمن معاقبة المتاجرة بالأشخاص.
- نصوص تجرّم العبودية صراحة. وقد حصل ذلك بموجب القانون الصادر في 3-9-2007 المتعلق بتجريم العبودية والذي يعاقب الممارسات الاستعبادية، والذي سُنَّ خلال المرحلة الانتقالية التي رأى فيها البعض محاولة للتخلص من الأنظمة العسكرية المتعاقبة. واللافت أن العقوبة التي نص عليها هذا القانون لا يتجاوز أقصاها 10 سنوات، ما يضعف إضعافاً لافتاً مستوى التجريم. فبذلك، يكون المشرّع قد تعامل مع هذه الجريمة تعاملاً معتدلاً، فأخضعها لإجراءات التحقيق والمحاكمة والتقادم المعمول بها في الجرائم العادية، وخصوصاً لجهة عدم إلزامية التحقيق. فالتحقيق يكون واجباً في الجرائم المنصوص عليها في المادة 71 من قانون المسطرة الجنائية، فقط في الجنايات المعاقب عليها بالإعدام أو السجن المؤبد؛ أو تلك التي تصل العقوبة فيها السجن لثلاثين (30) سنة؛ أو الجنايات المرتكبة ضدّ الأحداث.
- نصوص تُدَسْتِر التجريم وترفع من مستوى الجريمة التشريعي، وذلك بتحريم الاسترقاق والتعذيب واعتبارهما من الممارسات البائدة ضد الإنسانية غير القابلة للتقادم. وهذا ما نصت عليه المادة 13 الجديدة من القانون الدستوري الصادر بتاريخ 20 مارس 2012 والمعدل والتنصيص على ذلك في القانون الصادر في 23-1- 2013 القاضي بمعاقبة جرائم الاسترقاق والتعذيب بوصفها جرائم ضد الإنسانية.
وبقراءة بسيطة، نلاحظ أن المشرّع الموريتاني يتعامل تشريعياً مع هذه الظاهرة بمحاباة كبيرة.
فمرة يحاول رفع مستوى العقوبة ويضْعف مستوى التجريم كما هي الحال مع القانون الصادر في 3-9-2007. ومرة أخرى يحاول رفع مستوى التجريم بجعل جريمة الاستعباد جريمة ضد الإنسانية لا تقبل التقادم وبالتنصيص على ذلك في الدستور الموريتاني، وفي الوقت نفسه يحتفظ لها بعقوبة بسيطة وغير رادعة لا تتماشى مع وصفها الجنائي.
المعالجة القضائية للعبودية
رغم أن الدستور الموريتاني ينص على استقلالية السلطة القضائية، والفصل بين السلطات، إلا أنه لا جدال في أن القضاء في موريتانيا لا يمكن أن يطلق عليه سلطة ولا قضاءً مستقلاً، خصوصاً في تعامله مع الجرائم الاستعبادية وذلك للأسباب التالية:
- أن القضاة يعيّنون بناءً على قرار من المجلس الأعلى للقضاء الذي يرأسه رئيس الدولة وباقتراح من وزير العدل الذي هو جزء من السلطة التنفيذية. ويتضح من ذلك مدى تحكمه في القضاة من حيث التحويل والعزل والتأديب.
- أن القضاء الموريتاني يتبنى ازدواجية القضاء، حيث ينقسم إلى قضاء الحكم وهم القضاة الجالسون، وقضاء النيابة العامة وهم القضاة الواقفون الذين يأتمرون بأوامر وزير العدل مباشرة. لذا، فإن قضاة الحكم لا يصل إليهم من الجرائم إلا ما يتماشى مع إرادة السلطة التنفيذية السياسية والتي تهيمن من خلال ذراعها الطويلة (النيابة العامة) على تحريك الدعوى في الجرائم الاستعبادية.
- انعدام الشعور بالمسؤولية وعدم الاكتراث بهذا النوع من الجرائم بل وعدم التعامل الجدي مع الوقائع التي تصل للنيابة العامة والى القضاء. فمن المعروف أن من اكتوى بالنار ليس كمن رآها، وخصوصا أن القضاء الجنائي يعتمد في الأساس على القناعة وتقدير الظروف.
- انعدام ثقافة حقوق الإنسان لدى القضاة وضباط الشرطة القضائية وتبعيّتهم لمجتمعهم التقليدي، ما يؤدي إلى التستر والتحايل والتآمر على أي واقعة يتم تبليغها والتعامل معها بكثير من الاحتيال والاستسهال. ولنا أن نقارن بين جريمة النَّشْل التي غالباً ما يُحاكم فيها أفراد من الفئات المهمشة والتي يتعامل معها القضاة بحزم فلا يستفيد مرتكبها أثناء التحقيق من الحرية المؤقتة، وبين جريمة الاستعباد التي يتم التعامل معها بتساهل ويتم التدخل فيها من كل الجهات حتى يستفيد مرتكبها من حرية مؤقتة أثناء التحقيق غالباً ما تموت خلالها القضية. لذا تؤدي الصرامة في الإجراءات وفي المتابعة الى اكتظاظ السجون في الحالة الأولى، بينما يؤدي في الثانية إلى الإفلات من العقوبة نتيجة تساهل وتهاون الضابطة القضائية والنيابة العامة والتحقيق والمحاكم.
- عدم تطبيق النصوص المعاقبة بحزم على مرتكب الجريمة والاكتفاء بالغرامات التي تعتبر زهيدة جداً مقارنة مع العقوبات الأخرى في القانون الجنائي، وعدم اعتبار هذا النوع من الجرائم من الجرائم التي يصح فيها التبليغ والتفتيش التلقائي من قبل الضبطية القضائية كغيرها من الجرائم التي تفتش عنها الضبطية القضائية والإدارية.
المعالجة الإدارية
لقد حاولت الحكومات المتعاقبة إيجاد مقاربة لحلحلة موضوع العبودية، وتختلف هذه المقاربة من نظام إلى آخر. إلا أنها تتفق كلها في الالتفاف على معالجة هذه الظاهرة معالجة موضوعية. ويمكن تصنيف مراحل هذه المعالجة وفقاً للآتي:
- مرحلة أولى (1960-1978): اكتفت السلطة الإدارية خلالها بالتعامل بمحاباة مع السلطات التقليدية في المجتمع رغم التنصيص على الحرية والمساواة في دساتير تلك المرحلة. وانحصرت المجابهة في مجرد التعميمات إلى السلطات الإدارية فقط.
- مرحلة ثانية (1978-2006): اكتفت السلطة الإدارية فيها بالتكتم وإنكار ظاهرة العبودية والتستر عليها، خصوصاً في ظل انفراد شريحة واحدة من المجتمع وهيمنتها على الإدارة الإقليمية وعلى أغلبية الحقائب الوزارية وعلى أغلبية النقاط الإدارية الأمنية في البلد.
- مرحلة ثالثة (2006 حتى الآن)، وقد شهدت هذه المرحلة محاولات عدة:
o محاولة التفكير والتماشي مع نداءات الحقوقيين المتكررة والمتصاعدة للتنديد بهذه الظاهرة. وقد أدى هذا الأمر إلى التفكير في إيجاد مخرج من هذه الظاهرة يرضي المنتظم الدولي ويحابي المجموعات التقليدية التي تتشبث بالاستعباد كموروث ديني ولا تعتبره موجوداً وممارساً بل تعتبره مخلفات أسهم فيها التردي الاقتصادي فقط. لذا، أُنشئت لجنة وزارية مكلفة بإعداد استراتيجية وطنية لمحاربة مخلفات الرق وذلك بموجب المرسوم الصادر بتاريخ 12-10-2006. ولم يرَ عمل تلك اللجنة النور ولا التطبيق إلى الآن. بل تم التلاعب في نتائجها بواسطة التشريع الخجول المعبَّر عنه بالقانون المتعلق بمكافحة العبودية والمشار اليه أعلاه (2007).
o محاولة إصلاح العدالة باعتبارها الجهاز الذي تسند إليه تطبيق التشريعات المتعلقة بالاستعباد. وهو ما تم إبَّان الفترة الانتقالية من خلال إنشاء لجنة وزارية مكلفة بإصلاح العدالة بموجب المرسوم الصادر في 26-8-2005 لتتوالى الحوارات إلى أن كان الحوار الذي دار في الفترة ما بين 17-9 و19-10-2012 بقصر المؤتمرات بين الأغلبية الرئاسية من جهة والمعارضة المحاورة، وقد تمخض عنه إنشاء مؤسسة عمومية تدعى الوكالة الوطنية "التضامن" لمحاربة مخلّفات الرق والدمج ومكافحة الفقر بموجب المرسوم الصادر في 28-3-2013، بالإضافة إلى التعديلات الدستورية الآنفة الذكر.
o وكمسعى لإيجاد حل لمشكل القضاء من أجل التعامل الجدي مع محاربة العبودية، أُنشئت محكمة جنائية خاصة بجرائم الاسترقاق يعهد إليها بمتابعة ومحاكمة هذا النوع من الجرائم وذلك بموجب قرار المجلس الأعلى للقضاء في دورته المنعقدة بتاريخ: 29-12-2013.
فماذا ستضيف هاتان الهيئتان:
وكالة التضامن
ورغم أن هذه الوكالة تسمى بـ"التضامن"، إلا أن مرسوم إنشائها حدّد مهمتها بمحاربة مخلّفات الرقّ. وفي هذا تشبّث بإنكار هذه الظاهرة والذي لا تزال الحكومات المتعاقبة متشبثة به حتى الآن، وتنكر وجود العبودية كممارسة واقعية وتمييع للمهام الموكلة لهذه الوكالة كما هو واضح.
المحكمة الجنائية الخاصة بجرائم الاسترقاق
يعتبر إنشاء هذه المحكمة من الترف القضائي فقط. فعادة، يكون إفراد تشكيلات قضائية خاصة للمحاكمة على بعض الجرائم إذا كانت تلك الجرائم يتعامل معها المشرّع بخصوصية كبيرة كالإرهاب مثلاً، الذي كانت تنشأ له محاكم جنائية خاصة. وهذا لا ينطبق على هذه الجريمة، لأن الإجراءات نفسها التي يتم اتباعها في جميع الجرائم التقليدية الأخرى في المتابعة والتحقيق والمحاكمة تُطبق على هذه الجريمة.
كما أن هذه المحكمة لا حاجة إليها لأنها بُنيت على أساس تصور مجحف وهو تشخيص الخلل ووضعه على كاهل القضاة فقط، إلا أن الخلل الأعمق هو عدم جدية الجهاز التنفيذي وملحقاته التي تتحكم في وصول القضايا وطرحها أمام قضاة الحكم.
كما أن عدم إعطاء المنظمات الحقوقية صفة المتدخل بصفتها طرفاً مدنياً والاكتفاء بمجرد مؤازرتها فقط يفرغ هذه المحكمة من أي معنى لأنه يحصر دورها في المحاكمة فقط. وبالتالي ستكون السلطة الإدارية متحكمة في ما يأتيها من قضايا في ظل عدم استقلالية النيابة العامة عن وزارة العدل.
كما أن وجود هذه المحكمة في العاصمة معيق لحركية القضاء وتسهيل التقاضي على المواطنين، وبالتالي لا فائدة من الإتيان بأطراف قضية استعبادية من أقصى منطقة من موريتانيا 1200 كلم إلى نواكشوط.