
المجتمع السياسي الوطني بحاجة إلى إعادة استزراع! جفت حقول العمل السياسي، بار العمل السياسي، و حق له أن يبور، ففي كل شبر من مساحة خريطتنا الوطنية شعار حزب لا وجود له إلا في تجاويف جيب حامله!
ماتت الأيديولوجيا كما صاح يوما ذلك الياباني المنتشي بانتصار حضارة معينة معلنا موت التاريخ!
كل السياسيين أفلسوا أو ماتوا سريريا على الأقل! لن أتكلف إحصاء الأسباب الكامنة وراء ذلك، لكن الواقع ينصفني و يصدقني، و يحميني!
عدد الأحزاب السياسية تجاوز مائة حزب "جيب"، و إن لم تلجم وزارة الداخلية هستيريا تفريخ الأحزاب فقد يصل عددها أرقاما فلكية توازي عدد شرائح الهواتف الخلوية!
تولد الأحزاب عندنا أبدا ودائما بعمليات قيصرية كلما تجدد موعد انتخابي.
والأحزاب إذ تولد هكذا؛ فهي لا تولد ببرامج، فما هي بالأحزاب الإيديولوجية، و لا هي أحزاب مجموعات ضغط اقتصادي، و لا هي أحزاب اجتماعية محلية تنشد الحفاظ على البيئة مثلا، و لا هي أحزاب عمالية تنافح عن مصالح الشغيلة.
ماتت الأحزاب الأيديولوجية، و تراجعت التشكيلات السياسية المعبرة عن مصالح الطبقة العاملة و كانت النتيجة الحتمية تعويم السياسة و جعلها مجرد قناع للوصول لمصالح شخصية: انتزاع منصب انتخابي بمنافعه و مكاسبه المكرسة لمصالح "المنتخب" و تسهيل نشاطه التجاري إن كان له نشاط، أو تمكينه من إيجاد موطيء قدم في التجارة إن لم تكن له فيها سابقة.
و قد قدمت الانتخابات الرئاسية الأخيرة أسطع برهان على موت السياسة و نفوق الأيديولوجيا ؛ حيث انفرط عقد أحزاب كانت تظن عريقة و تطايرت شظايا أخرى كانت تعد عقائدية صلبة النواة، و تجلى النزوع الشخصي و المصلحي الآني الأناني كما لم يتجل من ذي قبل!
و في هذا المناخ الذي يسمه موت السياسة على الخرطوم تفتحت شرنقة الشرائح و القبائل و الأعراق كما لم تتفق من قبل، و صارت الدعوة الصريحة لـ"إنصاف" هذه الشريحة أو تلك مطلبا مقدسا، و الإنصاف هنا لا يعني المساواة في الحقوق و الواجبات، بل إنما ينحصر في تبوء شخص ما منصبا حكوميا أو إداريا "يرفع" صاحبه و لا يعود على الشريحة بشيء..لو تدبرت !
و الإستزراع الذي يلح لا يعني استجلاب أحزاب و سياسيين من خارج الحدود بقدر ما يعني تخليق العمل السياسي و ضبطه قانونا و تنظيما، فليس من المعقول و لا الرشيد أن يترك الحبل على الغارب لكل منتحل و متمصلح لكي يواصل هدر جهد مصالح وزارة الداخلية و اللجنة المستقلة للانتخابات، و و سائل الإعلام، و الرأي العام فيما لا طائل من ورائه.
و أرجو، و رسالة حكومة العهد الأولى ليست مشفرة، أن يتعلم المجتمع السياسي الصبر و الأناة و أن لا يرى في كل انتقال في رأس هرم السلطة تباشير الوصول لمصالح فردية هي في محصلتها على حساب تقدم و رخاء المجتمع الموريتاني بكل أطيافه.
القاضي/محمدالمختار لفقيه -